رصد المغرب
وقفت الحافلة في محطة الزيتون، حيث هناك جامعة الأدب و العلوم. لما لمست قدماي الأرض، تدفق عبير أريج من جهة السور الضخم يعطر أنفي. في ممر ضيق يفصل الجامعتين، كانت متكئة على سور “مولاي اسماعيل”. خطفني جمالها المثير الذي كاد يصيبني بالعمى والصم والبكم دفعة واحة، وربما حتى الشلل، إن لم أقل الموت.
انزويت جانباً أتأمل عينيها الزرقاوتين، فقالت:
– ألا تخجل من سماجة وجهك الفظيع؟
أشرتُ بإيماءات الرفض والقبول في آن واحد. تجمدتُ كالصنم أبحلق في شقرة شعرها الحريري وكأنها شقراء من إحدى البلدان الاسكندنافية. رفعت وجهها البهي ثم أزالت شعيرات ناصيتها المتصببات على رموش عينيها الصهباء كمن تكشف عن ارتسامات جمالها بأكمله. رسمت على جبهتها عبساً غليظاً. ما أروعها، حتى وهي غاضبة تظل جميلة! بل تزداد بهاءً ورقة. أخرجت علبة “داليدوف” من جيب معطفها الأحمر وسجرت سيجارتها بتأن، ثم زفرت الدخان الكثيف وكأنها تعبر عن عدم وجودي قبالتها.
انفتحت عيناي مسددةً نظرات تأمل لدخانها المزفور عله يطلعني وجهها الأيقوني الغابر وراء موجاته. بين شهيق وزفير، نظرت إلي وقالت :
– ألم تر أنثى تدخن من قبل، أم ضللت سبيلك وتراني أنا ضالتك؟
قلت بخجل:
– احترقت بجمالك الأخاذ مليون مرة قبل سيجارتك، فهل لي بأن أكون سيجارتك المشتعلة، أو أكون ذاك الدخان الذي يعانق صدرك الأيقوني ثم يتسلق ليتدفق من شفتيك العسلاوتين ؟
ابتسمت وكأن حديث عينيها يقول:
– لك ذلك أيها التافه الملعون.
ارتخت أصابعي وسقطت الأوراق والأقلام من يدي، فقد عشتُ الارتباط الشرطي. يسيل لعابي كالكلب الذي طُبِّقت عليه نظرية “بافلوف إيفان”.
تسرب فجأة أطيط الباب الخشبي الكبير لأذني. تفقدتُ الساعة، فإذا بوقت الإمتحان فاتني بسبع دقائق. ركضت إلى الباب، لكن الحارس البدين حكّم أقفاله. لا جرم أن حلم النجاح تبخر، فهل لي أن أسرقَ قلبها وأفوز الفوزَ العظيم؟وبينما أنا أتسائل عن حصادي في هذه القصة المريضة، وقفت سيارة فخمة كانت متجهة إلى مركز المدينة. رَمتِ الجميلة بعقب سيجارتها ودستْ عليه بكعب حذائها الأسود حتى انغرس في التراب.
أمسكتْ بباب السيارة فنظرت إلي نظرة أخيرة، وصعدت إلى المقعد تاركة ورائها أريج الوهم.
بِتُّ أراقب المكان الذي غرسَتْ فيه عقب سيجارتها، بل أذرف عليه الماء لعله ينبتُ ورداً ينثر أريجه ليعطر أنوف الطلاب.
بعد سبعة أيام بالتمام والكمال، بزغت شجيرة تشبه النخيل. آه يانخلتي، ترعرعي وفرعي وللعلا ارتفعي. ذكرني بالحسناء الفاتنة وبزرقة بحر عينيها العميق. ذكرني بأريجها الفوّاح وخطواتها المتراتبة. ذكرني وذكرني يا نخلتي…
امتلأتُ رغبةً في أن تترعرعَ النخلة وأسميها “بهية” كما قالت الحسناء وهي تودعني. لكن ذات يوم جاء عمال النظافة فاقتلعوها من جذورها، لم يفعلوا ذلك إلا لأنها وُجدت في المكان الخطأ ولأنها غُرسَتْ بعنفٍ وما كان لها أن تُغرس هناك.