أزمة الماء…

رصد المغرب

منذ عام 2019 يعيش المغرب أزمة جفاف لا سابق لها، بلغت ذروتها في شتاء 2024، مما أدى إلى إلحاق خسائر وخيمة بالقطاع الفلاحي والاقتصاد البدوي. كما أنها تهدد تعبئة المدن بالماء وبالتالي تهدد حتى إلى استقرار البلاد.

بالإضافة إلى ضعف التساقطات المستمر منذ 2019، تعتبر حالة الجفاف هاته نتيجة التغير المناخي الهيكلي الذي يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة وبالتالي إلى ارتفاع نسبة التبخر والاحتياجات الزراعية.

رغم ذلك من اللازم أن نضع الأزمة الحالية في سياقها وأن ندرسها بخلفياتها.

إن المغرب يعيش أزمة حادة بالنظر إلى احتياجات مائية للميدان الزراعي (89% من استهلاك المياه بالمغرب) التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة سببها النموذج الفلاحي الذي يتناقض مع ندرة الموارد المائية المتوفرة بالمغرب.

فقد سجلت الصادرات المغربية أرقامًا قياسية في عام 2023، بما في ذلك المنتجات الزراعية التي تتطلب مناخًا استوائيًا رطبًا كفاكهة الأفوكادو. الزراعات الصناعية للخضروات والحوامض تستنزف كذلك المياه الجوفية، التي تعاني من نقص حاد في مستويات التجدد يقدر بمليار متر مكعب من المياه كل عام. الكميات المستخرجة من الفرشات المائية تقدر بـ 5 ملايير متر مكعب كل عام وهو ما يعادل مئة مرة قدرة الري السنوية للمحطة الضخمة لتحلية المياه بشتوكة.

استراتيجية المغرب الفلاحية كانت تهدف عبر التاريخ إلى ربط رفع الإنتاج مع اقتصاد الماء عبر الاعتماد على وسائل تقنية.

فما بين سنة 2010 و2020، إدخال أنظمة الري الفعالة كتقنية الري بالتنقيط تطلب صرف ما يناهز 37 مليار درهم من طرف الدولة. لكن دون التحكم في اختيار نوعية الزراعات أو في مدى المساحات المسقية بهذه التقنيات، الكميات المائية المستهلكة ارتفعت ارتفاعًا هائل، خاصة عبر استنزاف المياه الجوفية، عكس الهدف الأولي لاقتصاد الماء.

رغم ذلك الحكومة المغربية لا تزال تصر في مقاربة تقنية لتعظيم توفر المياه، من خلال استخدام وسائل وطرق تقنية فقط (التحلية، الطريق السيار للمياه، الري بالتنقيط) والتي هي طرق مكلفة وغير كافية دون إعادة النظر في المشكل المحوري أي النموذج الزراعي الحالي المستنزف للماء.

إن نهج نموذج زراعي غذائي جديد يعتبر أمرًا عاجلا، مرغوبًا فيه وواقعيًا.

أصبح الري حاليًا وسيلة لخلق مناخ اصطناعي لفائدة زراعات صناعية تقدر حاجياتها من المياه بضعفين إلى 15 أضعاف لمستوى التساقطات تحت المناخ المغربي.

لهذا يتعين على الدولة والمؤسسات التابعة لها مواكبة ومساندة الزراعة والمزارعين من أجل جعل من جديد الري مكملاً فقط للتساقطات المحلية لتحسين مردودية زراعات متلائمة مع المناخ المغربي.

إن الاستراتيجية المائية الحالية المعتمدة على الحلول التقنية لا يمكن أن تكون ناجعة إلا إذا كانت مواكبة لمقاربة أساسها إدارة مباشرة ومعززة لاستغلال المياه. هذه الإدارة يمكن أن تتحملها بعض المؤسسات مثل وكالات الأحواض المائية مع إعادة تأهيلها ودعمها بالمزيد من الوسائل والإمكانيات ومع دمج أساليب الحكم التقليدية في إدارتها.

يجب العمل على تجديد الأنظمة الغذائية وإعادة ربطها بالزراعة والجفاف الذي يميز أراضينا.

بعيدًا عن الحل القسري، يمكن تحقيق الاقتصاد المائي المتوخى عبر إعادة النظر في نظامنا الغذائي المغربي.

من الواضح أن النظام الغذائي المغربي أصبح مصدرًا للعديد من الآفات مثل السمنة التي تهم 21% من البالغين. كذلك يعتمد هذا النظام الغذائي على مواد معظمها مستورد مثل القمح الطري والسكر، التي ولا تتماشى مع الظروف المناخية في المغرب.

يتعين علينا إعادة النظر والتفكير جماعيًا في احتياجاتنا الغذائية، خاصة بالعودة إلى نظام غذائي يتقرب من النظام المعتمد في السبعينات، مما سيجعله صحيًا أكثر ويعيد للزراعة المغربية ميزتها المقتصدة للماء والمغذية بفضل زراعات متلائمة مع مستوى التساقطات بالمغرب مثل الشعير والذرة والفول و”فول گناوا”…

كما أن الفلاحة العائلية، رغم التهميش الذي عرفته عبر التاريخ، تتميز بإمكانياتها الهائلة في تلبية هذه الحاجيات الغذائية المتجددة.

تحقيق هذه القدرات الإنتاجية والغذائية المقتصدة للماء يقتضي إعادة توجيه واسعة النطاق لدعم الدولة للفلاحين الصغار، قصد تسهيل تسويق المنتجات الفلاحية مقابل مستحقات عادلة.

كما يتطلب هذا الدعم تحسين وسائل الإنتاج (مثل إعادة تأهيل الري التقليدي أو الرقمنة) وتقوية الدعم الفلاحي (فيما يخص مثلًا توفير البذور التقليدية والتدريب على الابتكارات الإيكولوجية في مجال التقنيات الزراعية).

يتطلب هذا الأفق المحمس شجاعة سياسية كبيرة وابتكارات مؤسساتية مهمة قد تستفيد من التجارب الإيجابية لدول الجنوب الأخرى.

فمنذ 2000، ركزت الاستراتيجية البرازيلية “صفر جوع” على إقامة حوار وطني حول الأمن الغذائي ودعم الفلاحين الصغار، نتج عنها تقليص الفقر بشكل ملحوظ، حيث تمكنت من رفع عشرين مليون برازيلي من الفقر خلال عقد من الزمان وخفضت نسبة الفقر في الريف بنصفها.

وأخيرًا، فإنه لا يمكن تحقيق النموذج الجديد إلا بالابتعاد الكلي عن النزعة الاستهلاكية الغربية الساذجة والمدمرة، وإعادة ابتكار تصور مغربي جديد للحداثة، مستوحى من الفكر الإسلامي المغربي والأمازيغي والأندلسي الغني..

فكان ابن طفيل في القرن الثاني عشر يحتفي بالتغذية النباتية المحترمة للبيئة، وكان ابن خلدون في القرن الرابع عشر يؤكد على أن نمط العيش البدوي الريفي البسيط هو بمثابة تفسير لمدى قوة المجتمعات المغاربية آنذاك.

إن العودة إلى الرصانة المفقودة من شأنها أن تكون أكثر من أي وقت مضى، المنقذ الوحيد.


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...