دروس آيا صوفيا

والآن، ما هي الدروس التي يمكننا الخروج بها من قضية آيا صوفيا؟
هناك دروس عدة يمكننا أن نستخلصها من هذا الحدث، مهما كان موقفنا منه.
أول هذه الدروس هي أن معركة العلمانية، بمعنى فصل الدين عن الدولة، معركة خاسرة في العالم الإسلامي. المعركة الوحيدة التي يجب خوضها ـ بدل العلمانية ـ هي معركة الحرية والديمقراطية داخل النظام المعرفي الإسلامي، بما يعني تضارب الاجتهادات إلى حدودها القصوى، لكن من داخل هذا النظام. فلقد بشر الكثيرون في الشرق والغرب بأن تركيا انتقلت إلى أوروبا مع أتاتورك بشكل لا رجعة فيه، وأن الخلافة ماتت وانتهى الأمر، وأن تركيا أصبحت علمانية وختم الموضوع. وبعد ثمانية عقود يظهر اليوم، ومنذ بضع سنوات، أن لا شيء يمكن حسمه في تاريخ الشعوب بشكل مطلق. ولقد عاش الاتحاد السوفياتي أقل من ذلك بعشر سنوات وأكثر، حتى صاغ الناس مفاهيم وقواعد ثابتة ونهائية بناء على حضوره، ثم فجأة طار كل شيء وعاد كل بلد إلى تاريخه المحلي ومات تاريخ “السوفيات”. ولكن الدرس الأهم من ذلك هو أن الشعوب لا تسير بالقرارات العسكرية والسياسية، بل بالثقافة والوعي. فقد كانت العلمانية في تركيا مجرد قرار بسيط صدر عن شخص إسمه أتاتورك، رجل عسكري سفاح حاقد موال للغرب يريد اجتثات الإسلام والعربية، زرعه وسط أتباعه واستخدم أجهزة الدولة القمعية لفرض العلمانية، دليل ذلك أن تركيا كانت نظاما عسكريا ـ علمانيا، ولا يوجد في أوروبا العلمانية كلها دولة واحدة لها هذا الطابع المزدوج، علمانية ـ عسكرية، ما يعني أن العلمانية والعسكرة متناقضتان تماما، لا تلتقيان إلا في بلدان الشرق، وهو بالفعل ما حصل في تركيا وألبانيا وسوريا والعراق واليمن الجنوبي وغيرها، دائما كان العسكر يتقدم الصف العلماني.
لذلك لا يوجد خبر ولو صغير عن خروج عشرة مواطنين في أي دولة من دول الشرق لتأييد العلمانية، على العكس، قتل وسجن الآلاف من المواطنين بسبب العلمانية الشرقية، بينما في الغرب وأوروبا تحرر ملايين المواطنين بسبب العلمانية الغربية. فتأمل.
وما ينسحب على العلمانية ينسحب على غيرها من الإيديولوجيات. كل حكم إيديولوجي يفرض على الناس قناعات معينة باستعمال أدوات الدولة ينتهي بالانتحار أو الانفجار، مهما كانت شعاراته، حتى ولو حمل أصحابه القرآن الكريم على رؤوسهم، لأن الأمور تسير بالعدل لا بالنصل. وقد رفع حكام عرب كثيرون شعارات الإسلام أو تطبيق الشريعة لكنهم انتهوا إلى الباب المسدود، مثل ضياء الحق وجعفر نميري وحسن البشير والسعودية وباكستان، ويوشك حكم الإسلاميين في العالم العربي أن يكون صيغة معدلة عن هذا، بسبب النزوع الطائفي الذي يحول الأمر إلى حزبية مُفرغة، لا إسلامية مُشرعة. ولا يفيد أن نبحث عن الأعذار والمبررات لهذا الفصيل أو ذاك، وإنما الذي يهم النتائج، ولكل وجهة هو موليها.
الدرس الثاني أن أي نجاح لدولة معينة لا بد من أحد شيئين ضرورين، ولنقل “عصبية” بتعبير ابن خلدون، مع تحريف المصطلح لكي نعني به الآن “القاعدة”، هما: العصبية القومية أو العصبية الدينية، أو هما معا. وإذا كنا نتهم أتاتورك بأنه كان علمانيا ودمويا، وهو كذلك، لكنه عرف عنصر النجاح فركز عليه، وهو العصبية القومية، فأحيا النزعة التركية، وبعث اللغة التركية، والرموز التركية، والأسماء التركية. وجاء بعده أردوغان فبعث العصبية الدينية من قلب العصبية القومية، ووظف الإثنين بذكاء هو ذكاء فريقه الذي لا يظهر في الصورة، ونسق بين الإثنين بنجاح، وكانت النتيجة التي ترونها بأعينكم، وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم.
وهكذا إذا أراد العرب أن ينهضوا فعلا فعليهم الأخذ بهذين أو بواحد منهما.
ونحن في المغرب إذا أردنا ـ فعلا فعلا ـ أن ننهض من عجزنا وتخلفنا فعلينا أن نحيي القومية المغربية أولا، لأننا اليوم لا نحن مغاربة ولا نحن فرنسيون ولا نحن أبناء آوى؛ لا نحن عرب ولا نحن أمازيغ ولا نحن مسلمون ولا نحن أفارقة، نحن كل شيء ولا شيء. ولكي نفعل هذا علينا أن نعيد الثقة لدى المواطنين في الدولة، وأن تعيد الدولة الثقة في نفسها كدولة مسؤولة عن شعب يريد أن يصنع تاريخا لا أن يأكل ويمشي على الإسفلت ويركب القطار السريع، بل شعب له قضية وله غاية يريد حين يذهب أن يخلف وراءه مجدا، لا مجرد مقبرة تطل على البحر. ولكي نفعل هذا يجب أن نرفع ميزانية البحث العلمي، وقبل رفع ميزانية البحث العلمي لا بد أن نعرف مع من نفعل ذلك، بأن نحارب الفساد في الجامعات والمؤسسات التعليمية، لأن التسامح مع الفساد في الجامعة يشبه التسامح مع من يبول في المساجد؛ وأن نرفع ميزانية وزارة الثقافة، وندعم الكتاب، وننشره في المدارس، ونعلم أبناءنا تاريخهم، وتاريخ ملوكهم العظام الذين رفعوا راية العلم وحاربوا الظلم وهم على الحصان. وبكلمة واحدة مختصرة: المغاربة شعب يريد أن يتمتع بتاريخه كما يتمتع الأتراك. لا يريدون أن يسيروا وراء أحد، يريدون صناعة محلية.
وبغير هذا ـ أيها السادة ـ ستكون هناك موجة أخرى للهجرة السرية، قوارب الموت تنقل الشباب إلى أوروبا، وقوارب اليأس تقودهم إلى تركيا، وتبقون أنتم تكتبون التقارير عن مواطنين فرضت عليهم الظروف الاستقرار.


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...