الصوفية المنحرفة بالمغرب الأقصى

تخذ التصوف المغربي على امتداد التاريخ الإسلامي أشكالا متعددة، وتمظهرت بمظاهر مختلفة باختلاف السياقات والخلفيات، وظروف النشأة وأسباب التطور. وعرف المغرب قياسا إلى التسلسل الزمني للدولة المغربية من الأدارسة إلى العلويين بنايات فكرية ودينية واجتماعية وسياسية تراوحت تشكلاتها بين التصوف الفردي والتصوف المؤسساتي، الذي عكسته الرباطات والزوايا والطرق الصوفية، هذه الأخيرة شكلت بؤرة اهتمام تضاف إلى الاهتمام بالخطر الأجنبي الذي كان يتهدد المغرب، وكذا انعكسات التخلف الذهني والاقتصادي فصارت بذلك موضوع مواجهة وطرفا في الصراع، وعاملا رئيسا في نشأة السلفية الإصلاحية، كما أضحت عاملا مهما في بلورة سياسة البلد في فترات عدة من تاريخ المغرب الحديث. ولئن كان من غير اليسير الحديث في مقالة واحدة عن تلك الانتقالات التي شهدها التصوف ذو المرجعية المغربية، وما صاحب ذلك من صراعات بين السلطة الفكرية والسلطة السياسية ومحاولات الاحتواء والتدجين أو المهادنة والتعنيف في علاقة المتصوف بالفقيه والسلاطين. ولئن كان من غير المتيسر أيضا رصد التطورات التي مست وظيفة الزوايا فجعلت منها مؤسسة للجهاد تارة، كالزاوية الريسونية، ووجها من أوجه المخزن تارة ثانية، كالزاوية الوزانية( القرن 17م)، وسلطة بديلة تقدم نفسها محل السلطان تارة أخرى، كالزاوية الدلائية( القرن 17 الميلادي) والزاوية الدرقاوية1.فإن تحليلنا للظاهرة سيقتصر على تجلية ذلك الجانب السلبي الذي كان محط انتقاد وهجوم ليس من قبل السلاطين والعلماء فحسب بل ومن أهل الصوفية والزوايا أنفسهم، والمتمثل في الطرق الصوفية المنحرفة وأهل البدع التي وجدت في الاستعمار خير معين، وفي جهل العامة من الناس أخصب تربة، وفي لحظات ضعف الدولة وانقسامها أفضل المحطات للانتشار والتوسع.

1- المغرب بلد المائة ألف ولي يعد المغرب من بين أكبر البلدان الإسلامية احتضانا لظاهرة الأضرحة والمزارات، فلا تكاد تجد تلا ولا سهلا ولا هضبة ولا قرية ولا مقبرة و لامدينة إلا وقد شيد فيها ضريح أو مزار، إلى الحد الذي وصف فيه المغرب ببلد المائة ألف ولي. وقد كشفت دراسة أنجزت بمنطقة قلعة السراغنة حول مركز لا يتعدى تعداد سكانه 20 ألف نسمة وجود 50 وليا ضمن دائرة جغرافية لا تتجاوز عشرة كيلومترات

  1. 2. وتشير دراسة سوسيولوجية أخرى أنجزت بمنطقة دكالة إلى أن هذه المنطقة تعد الأكثر إيواء للأضرحة بالمغرب بعضها صغير كان الأصل فيه “كراكير” أو أشجار مقدسة تحمل أسماء لأولياء وهميين حولتهم الجماعة إلى رموز للهوية المحلية ببناء قبب فوقها أو حولها، فيما البعض الآخر عمت شهرتها المنطقة برمتها لتتعداها أحيانا إلى المناطق المجاورة. وتتميز هذه الأضرحة بحجم تجهيزاتها وأناقة زخرفها وتنجيدها، وذلك بفضل استنادها على قاعدة اقتصادية عريضة متمثلة في عزائب فلاحية (العزيب) وعقارات تجارية ومنشآت سكنية، بالإضافة إلى ما يقدمه الزوار من هدايا وقرابين، أما الأضرحة الصغيرة فقد فاق عددها عدد الدواوير بنسبة كبيرة‘ إذ قارب ألفي ضريح بمعدل ضريح في كل ثلاثة كليومترات مربعة ، وضريح واحد لكل ثلاثمائة وسبعين فردا في المتوسط
  2. ويؤشر أيضا على كثرة الأولياء والأضرحة بالمغرب كون مدينة القصر الكبير توصف هي الأخرى ببلد التسع وتسعين وليا وضريحا، لكل واحد منها مسجد للصلاة ولبعضها غرف للضيافة ولبعضها الآخر مقابر عائلية أو بساتين وأشجار مثمرة. وتؤكد البحوث والدراسات السوسيولوجية التي عنيت بالأضرحة والأولياء تلك العلاقة الوثيقة بين انتشار الصوفية ابتداء من القرن الثاني عشر الميلادي وتكاثر الأضرحة والمزارات باعتبارها إرثا لهذا الانتشار وتجسيدا واقعيا لحاجة الناس الملحة لفضاءات روحانية يستمدون منها قوتهم المعنوية لمجابهة آثار التسلط السياسي وتداعيات عوامل الجفاف وما ترتب عنها من مجاعات وأمراض وأوبئة وأزمات اقتصادية خانقة، فضلا عن الاعتقاد بقدرة هذه الفضاءات كخزانات للقداسة، على دفع المضرات وجلب المسرات( طلب الأولاد، العثور على غائب، الزواج….). وقد يكون من الأهمية الإشارة إلى أن المغرب قد تعرض خلال الفترة -1934-1844 لدورات من القحط والأوبئة وفيضانات وسيول واكبها غلاء فاحش في المواد الاستهلاكية، وقلة في المؤن و الغذاءوقد خلفت هذه الكوارث موت عشرات الآلاف من المغاربة والأجانب وثلث قبائل (حاحة وسوس ) من شدة الجوع ، وهلاك ربع سكان المغرب سنة 1879، وموت 5 آلاف يهودي من ( ملاح فاس ) ومائة وعشرون نفسا من مدينة سلا خلال الفترة 1854-1857، نتيجة وباء الكوليرا . أما الجدري الذي وصف حينها بالأحمر فقد حصد 6 آلاف شخص بمراكش سنة 1888 م
  3. وتعود هذه المكانة التي خص بها المجتمع تلك المزارات/ الأولياء إلى عدة عوامل كتناسل القصص والروايات الأسطورية التي كانت تثبت لهذا الولي أو ذاك خوارق وهمية قام بترويجها فئة ممن كانوا يستفيدون من إتاوات وأرباح الزيارات والهبات.

– أولياء بشهرة السلاطين وقدرة الأنبياء؟ودون الغوص في ظروف نشأة العديد من الأولياء وحقيقة تصوفهم وعلاقاتهم بالسلاطين والمجتمع ودرجات تعليمهم وتفقههم في الدين5، يجدر بنا تسليط الضوء على بعض الأولياء(دفيني الأضرحة) الذين فاقت شهرتهم كل متخيلوقد عرف العديد من الأولياء/ أضرحتهم بتخصصه في إشفاء نوع من الأمراض، ودفع نوع من الأضرار. فهذا (مولاي بوشعيب الرداد ) بنواحي دكالة الذي يعرف بـ “منقذ العاقرات”، وهذا (مولاي إبراهيم بمراكش) “الواهب للصبية الذكور” – بحسب قولهم الكاذب – ، وذاك( سيدي مسعود بن حسين) بدكالة أيضا الذي يدفع الاضطرابات النفسية عن الرجال والنساء!! ويسوق الباحث عبد الغني منديب الكثير من القصص التي حكيت له خلال إجرائه لبحث على عينة من النسوة في منطقة دكالة، ومن بينها أن إحدى النساء اللواتي شملها بالبحث في دراسته عن منطقة دكالة حكت له كيف أصيبت بحبسة ( تعذر في نطق الكلام) على إثر موت ولدها الصغير ذي السنتين من لدغة عقرب قاتلة، واستمرت هذه الأم الثكلى عاجزة عن الكلام لمدة مايزيد عن شهر حتى بكت وانتحبت في رحاب ضريح ( سيدي معاشو بن سعيد) الذي لم يعد لها صوتها فقط – على حد تعبيرها – بل ساعدها على نسيان فاجعتها وأعاد لها الرغبة في مواصلة الحياة.ويذكر الباحث محمد جنبوجي عشرات الأضرحة لأولياء اشتهرت لدى العامة من الناس بقدرتها على الإبراء والإشفاء، وخوارقها التي لاتعد ولا تحصى، ومن بينهم أبو العباس السبتي، المعروف (بسيدي بلعباس)، (وسيدي بنعاشر) ، و(مولاي بوعزة) و(سيدي بوعبيد الشرقي)، و(مولاي عبد السلام بنمشيش)، و(مولاي بوسلهام)، و(عيشة البحرية)، و(لالة محلة) ولعل من أغرب ما ساقه الباحث محمد جنبوجي قصة (سيدي سمهروش) الذي يقام حوله موسم سنوي تتوافد قبائل المنطقة من أجل إحيائه وذبح الذبائح له، إنهم يقولون عنه أنه ولي من الجن مسلم حافظ للقرآن عالم بأصول الشعوب وتاريخ الأنبياء تتلمذ على يد أئمة وشيوخ مثل البخاري وعبد القادر الجيلاني !! ويقولون عنه أنه كان يحمي وما يزال يحمي سكان المنطقة الوعرة والمظلمة من إصابات الجن، لأن المنطقة التي يوجد بها الضريح تتميز بوحشيتها التي تتجاوز كل متخيل، لذا كانت حاجة الناس إلى من هو أقوى من هذه الوحشية وبالرجوع إلى التاريخ المغربي الحديث، وخاصة خلال القرن 19 م، فإننا سنقف على جملة من المظاهر الشاذة والبشعة التي أدخلتها بعض الزوايا المنحرفة كالعيساوية والحمدوشية، ومن تلك الممارسات على سبيل المثال ابتزاز أموال الناس بطرق لم يحلها الله وحتى اليوم ما تزال مواسمها تشهد على بعض منها. وأمام هذا الوضع تحركت بعض الزوايا الملتزمة بالسنة النبوية للقيام بعملية تمشيط واسعة للمجتمع من مثل هذه الممارسات الدخيلة وينقل الباحثون، سلسلة من الشطحات والممارسات الشاذة التي عرفتها بعض الزوايا وما تزال تعرفها، ليس مع مؤسسيها على الأرجح، بل مع أتباعهم ومريديهم الذين حادوا عن السنة النبوية العطرة، ومن هذه ما ورد عن الزاوية القادرية/ الجيلانية التي راح أتباعها من الجلانيين يتوسلون بعبد القادر الجيلاني, تفتح طقوسهم بعد صلاة العشاء، إذ يتلى الحزب على ضربات الطبول وأنغام الغيطة.. وفي هذا الجو الصاخب تتصاعد الحمى ويختلط الناس من الجنسين ولا يستطيعون التحكم في أعصابهم فيتساقطون على الأرض. أما أتباع الزاوية الحمدوشية من الجهلة فإن ممارساتهم تسترعي النظر، يضربون رؤوسهم بالفؤوس والعصي وبالنسبة للزاوية العيساوية فقد كان أتباعها من الجاهلين يتخذون من يوم الجمعة صبغة دينية تمتزج فيها دقات الطبول ونغمات الموسيقى، حتى يصلوا إلى حالات هستيرية، فيلتهمون الزجاج والصبار ويبقرون بكيفية وحشية الأكباش المهداة إليهم وهي حية9. وحتى نصل الماضي بالحاضر فإنه قد ظهر مع مطلع السنة الحالية 2007 رجل يكنى (بالشريف) في ضواحي مدينة الصخيرات (بالقرب من العاصمة الرباط) تأتي إليه الركبان من كل فج عميق من داخل المغرب وخارجه يعتقدون في بركاته وقدرته على إبراء جميع الأمراض. ويقدر عدد الوافدين عليه مابين 4 و 5 آلاف شخص في اليوم الواحد يستوي في ذلك الفقير والغني والجاهل والمتعلم يحملون معهم السكر وقنينات من الماء، فيقوم الشريف بلمس الماء والسلام على الحجيج، دون أن يكلف نفسه عناء الخوض في أي طقوس للشعوذة حتى يدفع عن نفسه تهمة الدجل

. – الانحرافات الفكرية والعقدية

شكلت المعطيات المرتبطة بكرامات الأولياء ومناقبهم واقعا متخيلا عن شخوص بعضها حقيقي وبعضها الآخر لم يتجاوز مرحلة التخيل الجمعي. وبصرف النظر عن دلالات الولاية وما ارتبط بها من معاني الكرامة والمنقبة، فإن المجال الصوفي المغربي يشتهر عنده تكرار العديد من الكرامات منذ العصر الوسيط وإلى العصر الحديث، ومن ذلك كرامة المشي على الماء والطيران في الهواء وطي المسافات وإبراء العلل والتنبؤ بالغيب وإفشاء المكنون واستدرار الغيب وتحويل التراب إلى ذهب والاحتفاء عن الأنظار وإرجاع المسروق وتحويل المر إلى حلو. كما يشهد التدرج التاريخي على أن عددا كبيرا من أولياء منطقة دكالة في العصر الوسيط كانت علاقتهم بالثقافة والعلم ضعيفة، إن لم نقل منعدمة، ودخلوا للولاية من باب زهدهم وورعهم، وهي الصفة التي حببتهم لدى العامة، والغالب على أكثرهم ممارسة المهن الوضيعة، قليلة الكسب والمردودية، كـ” صناعة أحجار الأرحاء و” صناعة القدور”، بل إن منهم من كان ” لصا يقطع الطريق”، أو من كان مسرفا على نفسه يغني في الأعراس ويلعب فيها”، بل منهم من كان “مجنونا يركب على قصبة يجري بها”.وكل هذه المظاهر تعطي الانطباع أن التصوف والزهد والولاية، إنما كان خطاب أزمة اجتماعية بامتياز، ومنفذا للهروب من واقع متأزم، بحثا عن بدائل تعيد التوازن بين الذات والسلطة والمال ورغد العيش المفقود ولعله من المفيد جدا الإشارة إلى أن تاريخ الأولياء بالمغرب تضمن بالإضافة إلى الشيوخ والعلماء والمتصوفة فئات أخرى كان الناس يعتقدون في كراماتها وخوارقها وقدراتها على الشفاء والاستبراء وما إلى ذلك، ممن وصفوا بالمجاذيب التي ربطها بعض الباحثين بالتصوف، فيما استثناها آخرون، ومن أوصاف هؤلاء المجاذيب “الهائم” و”الغائب” و”البهلول” و”الموله” و”ساقط التكاليف” و”الغائب في الله” و”دائم الغيبة” والمجذوب، كما تصفه الدكتورة غيتة الخياط، عادة ما كان يرتدي ثيابا رثة وأسمالا غريبة، وقد يترك عرفا كثيفا من الشعر ولحية طويلة , ينام صيفا في العراء وشتاء في أماكن لا تخطر على بال وبالإضافة إلى هذه الفئة عرف المغرب أيضا ظاهرة أخرى سميت بـ “الملامتية”، وهي فئة من الناس كانوا كثيري اللوم لأنفسهم وأسسوا على ذلك مذهبا في تذليل النفس، وتحقيرها وحرمانها من كل ما ينسب إليها من علم أو عمل أو حال أو عبادة، وما لبثت هذه الطائفة أن أدخلت فيها سلوكات وممارست هجينة ومرفوضةويسوق الباحث الهادي الهروي كيف أنه بالإضافة إلى الأدوار الدينية التي كانت تقوم بها الزاوية المصلوحية بنواحي مراكش على سبيل المثال أصبحت تضطلع بادوار اجتماعية واقتصادية واستشفائية، مثل إيواء المظلوم وحماية (المزاوكين) وإعانة الضعفاء في عملية الحرث وإطعام المسكين والسهر على اليتامى والأرامل وإخصاب النساء العاقرات، والاستشفاء من بعض الأمراض عن طريق امتلاك البركة، ومنح الرزق( إعطاء الخبزة)، وقد كانت الزاوية تتلقى هدايا مثل (الدبيحة) التي تربط الشخص بالشريف الصالح وبالزاوية ككل، و(الزيارة) و(الغطاء) ( غطاء لضريح المولى صالح) وإذا كانت جل الكتابات التاريخية تثبت عكس ما تناقلته المناقب والحكايات والمرويات حول كرامات وخوارق الأولياء والصلحاء، إلا أن الكثير من الزوايا والقائمين على الأضرحة قد استغلوا نفوذهم للتمويه على العامة من الناس بكرامات مصطنعة تتبع الأولياء في أضرحتهم، مثلما نسبت إليهم في حياتهم عن حق أو باطل. ويحرص مسيروا هذه الأضرحة ( أحفاد الولي الذين يعيشون من الرأسمال الرمزي) على إشاعة قدرات جدهم في إنجاز المعجزات وينسبون إليه كل المنجزات التي تساير متطلبات العصر وتستجيب لرغبات الزوار، ويساهم الخدام والمريدون هم أيضا في تدعيم الرأسمال الرمزي للولي صاحب الضريح برواياتهم المتجددة حول حاجاتهم التي قضيت ورغباتهم التي حققت بفضل مزايا وبركات الولي وترتبط زيارة الأضرحة بطقوس ثابتة متمثلة في تقبيل أركان الضريح والطواف بقدمين حافيتين حول التابوت الذي يضم قبر الولي والتمسح بالرداء الذي يوجد فوقه، ثم تقديم الهدية التي تختلف باختلاف الطلب، فهي تبدأ بعودين من الشمع أو بضعة قطع نقدية أو لبوس التابوت ( الغطاء الأخضر)، وقد تصل إلى حد التضحية برأس الغنم أو البقروتعرف معظم أضرحة منطقة دكالة على سبيل الذكر عند الصوفية المنحرفة بشفائها لأمراض عضوية كالعقم أو الإجهاض المتكرر أو عدم إنجاب الذكور أوغيرها، وأمراض نفسية وعقلية ينظر إليها باعتبارها ناتجة عن مس من الجن أو عن عمل سحري كأمراض الفصام والصرع وما شابهها، بالإضافة إلى دور هذه الأضرحة في طلب التدخل لدى (الحضرة الإلهية) لترفع عنهم الظلم وتبعد عنهم الضيم – تعالى الله عما يقولون – ، والقيام بالسياحة الدينية بما تعنيه هذه الأماكن من خزانات للقداسة، وتعتبر المواسم الأكثر ملاءمة للظفر بهذه النفحات القدسية والحصول على بركة الولي – الانحرافات السياسية و إذا كان الاختلاف قد ظل سيد الموقف بخصوص إثبات أو نفي ما قد يصطلح عليه بالانحرافات السياسية عند بعض الطرق الصوفية بالمغرب، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للبعض الآخر من هذه الطرق، دون أن تفوت الفرصة للتأكيد على حقيقة تاريخية قد سبق أن أشرنا إليها سابقا، مؤداها أن الزوايا بالمغرب علاوة عن أدوارها التربوية كانت تضطلع في بعض المناسبات بمهام مرتبطة بمواجهة الخطر الأجنبي وإصلاح ذوي السلطة، وفي مناسبات أخرى بالخروج عن السلاطين ومعونة الاستعمار أ- الثورة على السلاطين  يشير الباحث الهادي الهروي إلى أن الزوايا لم تقم بدور الوساطة والتحكيم ومؤازرة المخزن فقط بل كانت جبهة قوية لمعارضة الجهاز المركزي، خاصة وأنها استقطبت عددا هائلا من الأتباع، وهو الشيء الذي تعكسه الزاوية الدرقاوية التي أصبحت لها أكثر من أربعين ألفا من الأتباع في ظرف وجيز 1728-1785، ودخلت بذلك لعبة الاصطدامات السياسية معتمدة في ذلك على المقدس والرأسمال الرمزي، الأمر نفسه حصل بالنسبة للزاوية الشرادية – يؤكد الباحث- التي ألحقت بالمولى سليمان هزيمة نكراء عندما أعلن مناصرته لقبائل الرحامنة ضد قبائل الشراردة، ومن أهم تمردات الزوايا،ينقل الباحث،هزم مولاي العربي الدرقاوي( الزاوية الدرقاوية) للمخزن سنة 1818، وقتل ابن السلطان المولى إبراهيم، وحصار مكناس من قبل أبو بكر أمهاوش، وتمرد الدرقاوي بوعزة الهبري في نواحي وجدة وتازة ، ومهاجمة الشريف الدرقاوي لمدينة فاس في 25 ماي 1912…. ومعارضة الزاوية الدلائية لمخزن المولاى اسماعيل. أما زاوية تازروالت فقد ظلت إمارة مستقلة لمدة طويلة ولم تعترف بسلطة المخزن إلا تحت ضربات حركات المولى الحسن الأول خلال سنة 1882-1886، قبل أن يجري تعيين شيخها ابن الحسن بن هاشم قائدا. ولعل من أهم الطرق الصوفية التي خاضت غمار المعارضة السياسية الدينية ضد المخزن- يرى الهروي- الطريقة الكتانية التي رأت أن المخزن قد أصبح عاجزا على مواجهة الظروف المأساوية التي عرفها المغرب، وتزايد عجزه على ضبط الأحوال الداخلية، وقد اتخذت هذه الطريقة ذريعة التحالف مع الكلاوي19 ولم يقف الأمر عند هذا الحد من الانحرافات السياسية بل تعداه إلى إيواء الأمراء والمتمردين كما حصل للزاوية امهاوش مع المولى يزيد الذي ثار ضد أبيه 1792-1790وتحريض القبائل ضد السلاطين والمخزن كما هو الشأن بالنسبة لأبي بكر أمهاوش سنة1818، الذي كان قد سعى إلى تأليب قبائل السهلية ( قبيلة كروان وزمور)20. هذا الوضع حمل بعضا من رجالات الطرق الصوفية على معاتبة السلوكيات المناهضة للسلاطين التي كان ينهجها البعض الآخر، ومن شواهد ذلك ما ساقه الباحث أحمد الطريبق بشأن الزاوية الدلائية التي اضمحلت مع مرور الزمن بفعل عوامل سياسية لتندمج في كل من الزاوي الفاسية بفاس والزاوية الناصرية، يقول الباحث إننا نستحضر نتفا من المراسلة السياسية الصوفية التي جرت بين احمد بن عبد القادر التستاوي، وبين آخر ثائر ينحدر من سلالة الزاوية ( يقصد الزاوية الدلائية)، وهو أحمد بن عبد الله الدلائي، وكان يومها يمثل الصيحة الأخيرة، من جيش الفلول، على عهد التوطيد والتـأسيس، في ملك السلطان اسماعيل. هكذا ينقل الباحث عن التستاوي قوله” ولا أرضى لك ملك الدنيا بحذافيرها، بل بكلمة من كلماتك في هذه الوصية تساوي جميع زخارفها، ثم إن كنت صادقا فعلامته أن تستعمل في أحب لك من النسك، وتجنب ماتراودك به نفسك من الملك..”.21ب – معاونة الاستعمار استعان الفرنسيون في احتلال المغرب ببعض شيوخ الزوايا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر كالدعم الذي قدمه الشيخ الحاج العربي الوزاني، والزاوية التجانية، والزاوية الوزانية والدرقاوية مع بعض الاستثناءات، قبل أن تعود هذه الزوايا لتعلن عن قطيعتها مع الفرنسيين وتأييدها للمخزن مجددا وتحارب من ثم إلى جانبه، مما جعل مواقف هذه الزوايا تكتسي طابعا من الغموض والثنائية الصارخة في التعاطي مع الخطر الأجنبي والتهديدات الخارجية. وهو ما تحيل إليه الشواهد التاريخية من كون زوايا أخرى جاهدت إلى جانب الدولة السعدية لمواجهة الخطر البرتغالي ورد العدوان الإسباني على مدينة تطوان، كما هو الشأن بالنسبة للزاوية الريسونية 22. ويذكر علال الفاسي كيف أدارت سلطات الحماية ظهرها لبعض شيوخ الزوايا بعد ما قضت منها حاجتها ووقع الاحتلال. يقول علال الفاسي إن السلطات الفرنسية التي شجعت الطرقية في عهد المقاومة المسلحة المغربية لأنها كانت تجد من أغلب المشايخ تأييدا وعضدا، لم يعد يهمها أمرهم شيء بعد أن تم الاحتلال العسكري الكامل لكل أنحاء البلاد سنة ،1934 بل إنها قلبت لذوي الشخصية البارزة منهم ظهر المجن، إذ هي تعرف أن تأييدهم لها لم يكن طبيعيا ولا متفقا مع العقيدة الدينية التي ينتسبون لها، ولم تستثن من ذلك- يقول علال الفاسي- إلا فردين هما عبد الحي الكتاني والحبيب الفيلالي، فقد احتفظت معهما برابطة متينة لأنها كانت تعلم بغض الأمة لهما وأنهما غير قادرين على التجول في أي بقعة من بلاد حماية الفرنسيين، وفي نفس الوقت كانت تعلم أنهما كاملا الارتداد لا يتأخران عن بذل أي تصريح لتأييدها في أي وقت كان. ويؤكد علال الفاسي مساعي الفرنسيين لاستمالة المزيد من شيوخ الزوايا فيقول: وحينما حالت الحرب الكبرى لم تجد فيهما غناء ولم يجدها اتصالها بهما شيئا (عبد الحي الكتاني والحبيب الفيلالي)، فاضطرت إلى أن تخلق من جديد مشايخ يستكتبون لها المتطوعين في الجيش لتأييد حكومة “فيشي”، وهكذا أسست طريقة سمتها الطريقة العالية يرأسها شخص اسمه عبد العالي أمدته بكل ما يمكن من المال لبناء زاويتين كبيرتين بالرباط والدار البيضاء، كما حاولت اصطناع غيره من أمثاله فهاجت السلفية حينئذ وتقدمت لتشرح للشعب حقيقة الحال. ومن الشواهد التي يسوقها علال الفاسي للتأكيد على مقدار استهزاء واستغلال الفرنسيين لعاطفة التدين في صفوف المغاربة، أن مراقبا فرنسا بمدينة إيفران.. أراد أن يركز السكان المغاربة الموجودين في الناحية في حي قريب من المدينة الأوروبية التي أسست حديثا ( يقصد زمنه) فرأى من الضروري تأسيس زاوية ومقبرة.. وبعد أن أتم بنائها على أفخم ما يكون( ومعها المقبرة) فكر في أن الإقبال على الدفن بالمقبرة لن يقع إلا إذا كان تضم رفات واحد من أولياء الله فقد انتظر حتى مات أحد الشواش( الفراشين) بالإدارة الفرنسية فأقام له جنازة كبرى ودفنه في الضريح و بنى عليه قبة ضخمة وعمدة باسم ( أبي دقيق) وكلف من يكتب عن مناقبه رسالة وزعها في القبيلة ثم أرغمها على أن تقيد مولدا تذبح فيه الذبائح وتهدى النذور، كل ذلك ليحمل المغاربة على الدفن في الضريح…. وقد انزعجت القبيلة –يضيف علال الفاسي- لهذه الأساليب وتوجه وفد من السلفيين بها إلى جلالة الملك يخبرونه بتفاصيل الأمر فانتقل بنفسه لعين المكان وتأكد من صدق ما روى له الوفد السلفي.. فما أصبح الصباح حتى وجد المراقب صنمه قد هدم . وذكر علال الفاسي كيف أن الإدارة الدولية في طنجة تستغل موسم السيد البقالي المعروف بأبي عراقية لتقيم باسم الدين معرضا لأنواع المخازي والفضائح الخلقية والاجتماعية معتبرة ذلك وسيلة من وسائل الدعاية للمدينة وجلب السائحين إليها23. 5- الانحرافات الاقتصاديةوحظيت الزوايا- خاصة الكبرى منها- عبر التاريخ الطويل بالرعاية والدعم الماليين، من خلال الامتيازات والهبات والإقطاعيات. وفي هذا الصدد يذكر الباحث الهادي الهروي أن بعض رؤساء زاوية القناطرة بناحية القصر الكبير قد نالوا امتيازات ضريبية وإقطاعات أرضية بظهائر، منذ أمد بعيد، مثل ظهير السلطان السعدي سنة 1586، الذي خص رؤساء تلك الزوايا بعائدات الضرائب الدينية( الزكاة والعشور)، وبـ (حكرة المنتوج الفلاحي للأرض)، واحترام طرق الزواية. وقد جدد ظهير المولى إسماعيل ( 1673) هذه الامتيازات، وأضاف إليهم عزيب الدشر برجاله الذين يعملون به. أما ظهير 1719، فقد منح به مولاي إسماعيل إقطاعيات لفقيهين من الزاوية تمتد على ما قدره ثلاثين”زوجا” من أراضي المخزن، يختارانها في مكان يحددانه بنفسيهما، وعشر زوجات من ملكية سكان “القصر” ( مدينة القصر الكبير). وقد أكد (مولاي عبد الله وسيدي محمد بن عبدالرحمن والمولى عبدالرحمن والمولى سليمان) للقناطر هذه الامتيازات، إلا أن هذه الامتيازات ستتراجع فيما بعد لاعتبارات سياسية. ويشير الهادي الهروي إلى أن الزاوية المصلوحية بضاحية مراكش قد نالت هي الأخرى امتيازات الإعفاء الضريبي وإقطاعات أرضية وحصص من الماء وظهائر التوقير والاحترام، وقد قدرت الممتلكات العقارية للزاوية المصلوحية، حسب إحصاء 1876م الذي حدد ممتلكات المخزن بـ 1500 هكتار24. ومن الشواهد التاريخية التي تسلط الضوء على المطامع الاقتصادية لبعض الزوايا والطرق الصوفية بالمغرب باعتبارها وجها من أوجه الانحراف، تلك التي ساقها باحثون مغاربة كإبراهيم حركات ومحمد ضريف ومحمد بوسلهام. فقد كان شيوخ الزوايا منذ ما قبل القرن 19 شديدي الاهتمام بمسألة الإعفاءات التي تخولها لهم الظهائر، ومن ذلك الزوبعة التي أثارها أبناء المسمى خالد المصمودي في وجه السلطان السعدي محمد الشيخ الذي أمرهم بدفع الخراج على الأرض قبل أن يتم التوقيع على ظهير مكتوب يحدد كل طرف وواجباته. أما “الريسونيون” فقد حصلوا على مكافئة هامة تمثلت في الأرض التي دارت عليها معركة الملوك الثلاثة نظير بدر العطاء إلى جانب الجيوش السعدية خلال هذه المعركة، المسلسل نفسه سيتكرر مع الزاوية الدرقاوية التي أغدق عليها المولى إسماعيل بالامتيازات التي تجلت في الإعفاءات من خلال ظهير لهذا السلطان، والزاوية الوزانية التي صار نفوذها الاقتصادي يتجاوز المغرب باتجاه السودان، والزاوية الناصرية خلال القرن 17 التي كانت تعد سوقا تجاريا للتبادل والبيع والابتياع وممرا استراتيجيا لسفن الرمال القادمة من أعماق السودان، والزاوية التجانية التي منحها المولى سليمان بناية جاهزة لإقامتها، فضلا عن حقوق تسيير الأراضي والاحتفاظ بالأعشار والزكوات وتوقيع اتفاقات تجارية مع الأجانب. هذه الوضعية ستخلق في ما بعد حالة من البوار والكساد لخزائن الدولة ووضعا مترديا لماليتها25. وقد كانت الموارد المختلفة للزوايا تدر على المشرفين عليها أموالا طائلة جعلها عرضة لانتقادات الفقهاء وبعض شيوخ الزوايا الأخرى. فهذه زاوية أبي الجعد كان بإمكانها خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر إطعام ما يقرب الألف شخص على مدى سنة كاملة من خلال ما تجمعه في ظرف أسبوعين فقط، كما أن الزاوية الناصرية بتمكروت كانت سنة 1847 عبارة عن قصر كبير مسور يأوي ما يناهز 2500 نسمة26  6- مواجهة السلاطين لانحرافات الزواياولئن كان معظم السلاطين المغاربة قد حاربوا البدع والخرافات وانحرافات الزوايا، على اختلاف بينهم في قوة المواجهة، فإن دعوة السلطان المولى سليمان الذي تأثر بالحركة الوهابية في المشرق تظل الأقوى بينهم بل والمنشأ لحركات إصلاحية ستأتي فيما وإلى ذلك يشير علال الفاسي في كتاباته27 ، من أن الحركة السليمانية شكلت بداية قومية لتنبيه الوعي الإسلامي والاجتماعي في نفوس المغاربة أجمعين إلى أشكال الانحرافات عن السنة النبوية العطرة. فعندما لمس المولى سليمان الآثار الوخيمة لانحرافات الطرقيين- يقول علال الفاسي- دعا إلى العودة للسلفية الأولى ومقاومة الطرق وتشعباتها واستجاب للروح الحنبلية التي كان سلفه السلطان محمد بن عبد الله أول المعنيين بنشرها والدعوة إليها.. وقد كان للرحلة الاستطلاعية التي قام بها الأمير إبراهيم بن سليمان إلى الحجاز لأداء فريضة الحج سنة 1226 بإيعاز من والد المولى سليمان، الذي أكد عند عودته أن الحركة الوهابية ليست شيئا غير ما يرمي إليه المصلحون من تطهير العقيدة وتطبيق الشريعة، كان لهذه الرحلة- يؤكد علال الفاسي- أثرها في تشجيع المولى سليمان على مواصلة كفاحه ضد المتمشيخين والمفتقرة كما يسميهم، فظل يوجه الرسائل لتقرأ على المنابر في سائر مساجد المغرب يتحدث فيها عن متصوفة الوقت ويحذر الناس فيها من الخروج عن السنة والتغالي في البدعة، كما يشرح آداب زيارة الموتى ويحذر من تغالي العوام في ذلك مغلظا القول. وواصل جميع الملوك الذين تعاقبوا على عرش المغرب الدعوة إلى السلفية في كل تصرفاتهم ولكنهم لم يستطيعوا في الواقع أكثر من التخفيف من وطأة الخرافة على العلماء ورجال الدين، ولعل ذلك راجع لكونهم لم يتعدوا فيما فعلوه أسلوب الوعظ والإرشاد ومنع بعض المراسيم التي كانت تتسم بالمغالاة.28. ويسوق علال الفاسي تلك الانتفاضة التي سجلها جلالة الملك محمد الخامس ضد الزاوية العالية التي أسسها الاستعمار فيقول:” وقام جلالة الملك قومة الملك المخلص بمجرد ما علم باستغلال عبد العالي هذا الدين والتصوف في سبيل خدمة غايات استعمارية بغيضة، وانتهى الأمر بأن أصدر جلالة السلطان أوامر للمحكمة الشرعية بالرباط لتنظر في شأن عبد العالي المذكور، وبعد أن استعملت المحكمة كل الإجراءات الشرعية أصدرت قرارها بضرورة إقفال الزوايا العالية واستتابة رئيسها من دعواه الخرافية، وأرسل جلالة الملك لباشا الرباط فأقفل الزاوية العالية كما أقفل باشا البيضاء( مدينة الدار البيضاء) الزاوية الأخرى، ثم أرسل جلالة السلطان مرسوما بمنع تأسيس أية طريقة جديدة بغير إذن من جلالته الخاص وعدم جواز إعطاء هذا الإذن إلا بشروط تدخل في إطار ما اشترطه العلماء والشيوخ المريدون، كما يقتضي هذا المرسوم منع الشيوخ الموجودين من تأسيس أية زاوية بغير إذنه وقد أدى صدور هذا المرسوم سنة 1946 إلى قيام أزمة شديدة بين الإقامة الفرنسية والقصر الملكي، ولكن الملك صمم على تطبيق المرسوم على الرغم من رفض السلطة الفرنسية نشره بالجريدة الرسمية المغربية 29. ولم تقف مبادرات الملك محمد الخامس- يؤكد علال الفاسي- عند هذا الحد بل لقد أصدر عدة أوامر بمنع خروج الطوائف العيساوية والحمدوشية على الصفة التي كانوا يخرجون بها، ثم منع إقامة مواسمهم إلا في أضيق دائرة ممكنة وتحريم النحائر التي تقدم للصالحين في مختلف المناسبات التي تحيي فيها ذكراهم بكيفية لا يرضون عنها، وانتشرت الدعوة في الأوساط الشعبية إلى حد أن الأمة بدأت تقيم الأفراح وتزين الأسواق كلما صدر مرسوم ملكي بمنع بدعة من هذه البدع ومحوها من الوجود وعلى الرغم من المحاولات التي بذلتها الإدارة الفرنسية بخلق حركة رجعية أو المشاغبة على هذه الأعمال الإصلاحية فإن استجابة الأمة لدعوة الإصلاح كانت تعفى على كل الدسائس والأغراض، بل الدعوة تسربت حتى إلى كثير من رجال الطرق المخلصين فقروا العدول عن بعض البدع التي تبين لهم أنها ليست من الدين ولا من الطرقة في شيء، فأصدرت الطريقة التجانية تعليمات بمنع الرقص في زواياها وفعلت ذلك الطريقة الخلوتية بفاس مكتفية بقراءة أورادها في صمت وهدوء- دور الحركات الإصلاحية  جسدت الحركة السلفية الإصلاحية بالمغرب استمرارا لإرث سلطاني في مواجهة الزوايا كما يذكر ذلك علال الفاسي أحد رجالات السلفية من الجيل الثاني للوطنيين المغاربة. علال الفاسي عرض مصارعة العلماء المصلحين للزوايا مع نهاية القرن 19م، وبداية القرن 20، وقسمهم إلى أسماء من الجيل الأول وتضم أبي شعيب الدكالي ومولاي محمد بالعربي العربي ثم محمد غازي، وأسماء تنتمي إلى الجيل الثاني وعلى رأسهم هو( علال الفاسي)، دون أن يلغي الدور الذي كان يضطلع به رواد الفكر السلفي خارج الإطار التاريخي للمغرب 31فهذا أبي شعيب الدكالي وبرغم ما قيل عنه من تعاونه مع سلطات الحماية، كان قد جمع حوله عددا كبيرا من الشباب النابغ يوزعون الكتب التي يطبعها السلفيون في مصر ويطوفون معه لقطع الأشجار المتبرك بها والأحجار المعتقد فيها، أما تلميذه محمد بلعربي العلوي فقد شكل نقطة تحول في أشكال المواجهة والصراع مع الزوايا ، ويجسد بذلك منهجا جديدا انطبع بما أسماه علال الفاسي بالسلفية الجديدة وكان محمد بالعربي العلوي متعاطفا مع الزاوية التجانية، إلى أن قرأ مجلة المنار التي كان يديرها رشيد رضا ، وكتب ابن تيمية ، فتحول بذلك إلى داعية سلفي بالمغرب والتصق اسمه حينها بالثورة على الخرافة والبدع وكان محمد بالعربي العلوي يسخر من أرباب الزوايا أو الذين يلجأون إلى الأضرحة أو يربطون أنفسهم بورد عن إمام أو شيخ.. وقد ربط العربي العلوي بين التخلف العقلي والديني والاستعمار ومسؤولية الطرقيين عن ذلك، فكانت دروسه بمثابة مواجهة ضد الطرقيين والزوايا والطوائف التي كانت تشوه سمعة المغرب الحضارية والإسلامية من جهة ، ومواجهة الاستعمار من جهة ثانية32. ولعل من بين المرتكزات التي قامت عليها دعوة العلماء، تلك التي تمثلها محمد بلحسن الوزاني أحد رجالات النخبة الوطنية كمبررات لتحديد موقفه من هذه الزوايا، فهي بالنسة إليه منافقة وخادعة وماكرة ومشعوذة، تعيش عالة على المجتمع، تستنفع دون أن تنفع، فهي بذلك دور للرقص والطعام لا يعترف لها بالوجود لأن الإسلام لا يعترف بالوساطات بين الله والعباد، كما أنها معينة للاستعمار. وواصلت النخبة المغربية إبان الاستعمار الفرنسي – يقول علال الفاسي- نشر فصولها السلفية ومحاربة خصومها في صحف تونس والجزائر والمغرب خاصة مجلة شهاب التي كان يصدرها صديقي المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس. وقد ألفت في ذلك كتب عديدة تفضح خيانات بعض الطرق الصوفية، وبذلك أضحت هذه الحركة عملا موازيا للكفاح الذي قام به المجاهدون في الجبال وتبع هذا الإصلاح تجديد في أسلوب الوعظ والخطابة الدينية فاستفادت اللغة العربية منه وانبعثت الأحاديث الصحيحة وأخبار السلف النقية من مرقدها لتحل محل الخرافات والمناقب التي كان الوعاظ يغربون في جمعها وابتكارها تملقا للجمهور وتحببا للناس –

وفي خضم الاتهامات التي وجهت لبعض الطرق الصوفية خاصة ما تعلق منها بدعمها للاستعمار والتطلع إلى السلطة والتعلق بالكرامات، كانت تنبري بين الفينة والأخرى كتابات تدفع هذه التهم وتدعو إلى ضرورة عدم تعميم الأحكام، ومن ذلك إثبات أن الطرق الصوفية ابتعدت عن الخصومات والصراعات والرهانات السياسية والتصقت بالمقابل بهموم المجتمع وظلت تضطلع بأدوارها التربوية والدينية والتعليمية. وفي هذا الصدد يقول حسن السباعي الإدريسي : ( إنه منذ ما يناهز الأحد عشر قرنا وطيلة هذه المدة كلها لم يسبق لأحد من شيوخ الطرق أن سعى إلى الوصول إلى السلطة ولا أن اختلف مع أحد حول ذلك، لأن هدفها كان ولازال هو التربية الروحية وتوجيه القلوب إلى ربها – بحسب قوله وينقل الكاتب أن ( الرجال الذين سلكوا الطريقة وشهد لهم التاريخ بإشعاعهم المغربي والإسلامي كان لهم دور رائد في نشر الإسلام في كافة أصقاع الدنيا وبالخصوص في إفريقيا، حيث نشروا الدين الحق، واستطاعوا ترسيخه في قلوب الأفارقة ووجدانهم، مما منع الصليبية من أن تنجح في تنصريهم وينقل الكاتب ( الدور الوطني للطرق الصوفية في مواجهة الاستعمار بقوله” اتخذ البعض من الافتراء على الماضي ومحاولة طمس وتزوير الحقائق التاريخية وسيلة للبلبلة والتشويش على الحاضر، واعتادوا كلما دار الحديث عن الخيانة والخونة، إحياء خطاب يدعي أن الطرق الصوفية تعاملت مع الاستعمار متنكرة بذلك لمشاعر المغاربة ولتعلقهم بلادهم، وهذا يدفع إلى الدهشة والاستغراب خصوصا حين نرى نفس الأوساط لا تتحدث أبدا عن الجهات التي ارتبطت فعلا بالاستعمار والتي استفادت من امتيازاته وعملت على رعاية مصالحه. ويعلم أصحاب هذه الاتهامات أكثر من غيرهم- يزيد الباحث- صدق رجال التصوف وحسن نيتهم وغيرنهم على وطنهم وتزعمهم حركات المقاومة لحماية الوطن ومواجهة فلول المعتدين على إحياء الدين الحق، وإيقاظ الهمم بذكر الله تعالى وبالسير على نهج نبيه الكريم)- بحسب قوله

خاتمة

مثلما أشرنا إلى ذلك في مقدمة المقالة، فإن تحليلنا انصب على الجانب السلبي من تجربة التصوف بالمغرب الأقصى، وهو ما لم ينكره حتى أهل التصوف أنفسهم، وإلا فإن هذه التجربة جديرة بالدراسة والتحليل من جميع جوانبها لأخذ صورة كاملة عن تأثيرها في جميع مناحي الحياة وتداعياتها على الحقول الأخرى إن في الفترات التاريخية الماضية أو في التاريخ المغربي الحديث أو في الوقت الراهن. ومن منطلق السياقات الآنفة يصير من الأهمية بمكان أن نستشرف مستقبلا جديدا للصوفية بالمغرب في ضوء ما كتب خلال الفترات القليلة الماضية من أهل التصوف أنفسهم عن ضرورة بعث تصحيحي ورؤية متجددة لهذا التصوف.

 


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...