الكنبوري في رسالة الى الشيخ بن بية: يحز في قلوبنا أن نراكم في صف التطبيع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخ العلامة الفاضل الإمام عبد الله بن بية نفع الله بكم

قد لا يكون هذا العبد الضعيف، الذي يكن لكم صافي المحبة وممخوض الود، الشخص المناسب للكتابة إليكم ومخاطبتكم في قضية هي أكبر منا جميعا اليوم، لا نملك فيها سوى أن نشد على قلوبنا كأفراد في أمة مائجة، حتى لا تزيغ. فالقلب، كما تعرفون أكرمكم الله، هو آخر ما يبقى تحت سلطان المسلم إذا ضاع منه كل شيء، ولذلك كان مولانا رسول الله يحب هذا الدعاء ويحرص عليه كما روى أنس رضي الله عنه:”يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”. وجعل رسول الله القلب آخر شيء يجب الحفاظ عليه ولا يُسمح بالتنازل عنه، لأنه آخر قلاع الإيمان إذا سقطت الحصون، لذلك جاء في الحديث المشهور الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه في باب تغيير المنكر:”ّ… فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”، ذلك أن الأصل في التغيير هو الفعل، إلا أن الإسلام تسامح مع عدم القدرة، لكنه لم يتسامح مع الضمير.
مولانا الشيخ حفظكم الله تعالى
لقد حز في قلوبنا وفي قلب كل مسلم يحب علماء هذا الدين ويستبشر بهم خيرا في زمن شره مستطير، أن يقترن اسمكم الكريم بمشروع التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب، المعادي للأمة، المحارب لأبنائها، الساعي إلى استئصال شأفتها وقطع دابرها. ويعلم الله سبحانه وتعالى كم نحبكم ونحب جميع علماء الأمة في أي مصر كانوا، وبأي لغة تكلموا، ما دامت لغة الوحي تجمعنا في وعاء واحد نقي، ولذلك نشعر بالألم ونحن نراكم تباركون اتفاقا لما يسمى السلام، في أوج الحرب على الإسلام كما تعرفون بارك الله فيكم، وليس ذلك بخاف عليكم. وأنتم تعرفون قبل غيركم، باعتباركم من الطائفة المباركة التي هي ورثة الأنبياء، أن دولة إسرائيل ليست بالدولة الراغبة في السلام، والتعايش مع الآخرين، والتنازل عما أخذته بالقوة والدم والجريمة الدولية، ومتى تنازل الغاصب بالقلم عن شيء ناله بالسيف، إلا أن يكون ذلك خلاصة الغلبة؟ بل متى كان المظلوم يسعى في استرضاء الظالم والاحتفاء أمام الناس بأنه تعاهد معه، إلا أن يكون ذلك برهانا على خسوف المعايير؟ ولقد قلتم مرة: “نريد أن نجعل السلم بساطا للعدل، وأن نجعل العدل وسيلة للسلم”، فهل ترون فضيلتكم أن مثل هذا السلم بساط للعدل؟.
يوم أسستم “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة” راودنا شعور بأنكم وطنتم نواياكم على رأب صدع المسلمين، وتوحيد أصحاب القبلة، وجبر ما انكسر، وكان فرحنا كبيرا لأن التسمية فيها عبارة”المجتمعات المسلمة”. ولكن ما رأيناه من اقتتال وقتل في بعض المجتمعات المسلمة، وسكوتكم عما يجري، باسم السياسة والحكم ظاهرا، وباسم تحصين الاستعمار باطنا، أيقظ مخاوفنا من انحراف المنتدى عن مقاصده النبيلة، وانزلاقه إلى ركن غير شديد. فلم نسمع لكم صوتا، ولم نر منكم مبادرة، بغاية حقن دماء المسلمين، وصون أعراضهم، بدافع النزول عند حكم الرسول الكريم القائل “دم المسلم على المسلم حرام”.
ولم نكن ندرك بأن الهدف الذي جيء بكم له، وأريد توظيفكم فيه، هو التمهيد لبناء أصل شرعي لمشروع لا شرعية له، مشروع لا يحبه الله ورسوله. وأنتم أدرى منا بأن المسلمين في تاريخهم لم يكونوا يستطيعون تسليم أهل الذمة من غير المسلمين إلى العدو، أو التصالح معه على حساب حقوقهم، فكيف و”أهل الذمة” في يومنا هذا هم الفلسطينيون الذين يعانون من العدو الشقيق والعدو غير الشقيق؟ وإنها لغريبة من الغرائب أن يتنازل بعض المسلمين عن حق بعض المسلمين، فيكونون مسلمين عند التنازل، ولا يكونون مسلمين عند النصرة، ومتى جاز في شريعة الله أن تسلم أخاك؟ وقد قال الله سبحانه وتعالى:”لا يكلف الله نفسا إلا وسعها”، وهذا باب في علم السياسة مفاده أن تنسحب عند الجبن والخور طلبا لنجاة نفسك، لا أن تأمر غيرك بالانسحاب وهم قادرون على المغالبة.
شيخنا الجليل أكرمكم الله
إنكم تعلمون أن اتفاقية ما يسمى السلام، المفترى عليه، لا تلزم الأمة في شيء، بمثل ما لم تلزمها اتفاقيات قبلها مع دول عربية أخرى، لأن هذه الاتفاقيات تعبر عن مصالح الدول لا الشعوب، والحكام لا الأمة. وتعرفون فضيلتكم أن أمتنا اليوم أشبه ما تكون بالأمة أمس في الأندلس، عندما تفرقت مزقا إلى طوائف متناحرة تتزاحم على خطب ود النصارى، حتى وصف لسان الدين بن الخطيب الوضع فقال:”وقام بكل بقعة مليك وصاح فوق كل غصن ديك”. فما أشبه الليلة بالبارحة، وأنتم ترون أمراء الأمة يخطبون ود اليهود والنصارى معا، ويا ليت ذلك كان جالبا للسلم والرخاء والحياة الكريمة ورد ما ضاع من حقوق المسلمين، لكنه استباحة لتلك الحقوق وتزكية للسارق ومباركة للقتلة، فلا الحقوق عادت، ولا الكرامة ضُمنت، ولا الرخاء تحقق، فلمَ الركض وراء سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء؟.
إن موقفكم شيخنا الفاضل العزيز موقف سيبقى مخلدا في سجل علماء الأمة الذين تحرفوا في آخر العمر، أطال الله عمركم وبارك فيكم وردنا وإياكم إلى الحق. وإننا والله لا نشك فيكم ولا نقول فيكم إلا خيرا، ولا نقول ذلك مجاملة اليوم بعد أن انفض السامر، وإنما هي غيرة على علمائنا لأنهم حصون الدين، وخوف على الشباب وخصوم الإسلام أن يطعنوا فيه من خلالكم، وأن يقولوا مقالة أبي العلاء المعري التي لا تزال حية بيننا اليوم، عندما شنع على العلماء وعلى الدين واتهمهم بأنهم يسوغون فقط للحكام أمورهم، ويعززون حياة المترفين ولا يؤازرون الضعيف، عندما قال:
إنما هذه المذاهب أسباب
لجذب الدنيا إلى الرؤساءِ
غرض القوم ومتعة، لا يرِقون
لدمع الشماء والخنساءِ
كالذي قام يجمع الزنج بـ
البصرة، والقرمطي في الأحساءِ.
ونحن لا نشك في أن لكم مسوغات فقهية ومواقف اجتهادية أملاها عليكم علمكم في موقفكم هذا، ولكم تقديراتكم للمصالح والمفاسد، إذ ليس من النبل أن نتهمكم بحب الدنيا وأنتم في هذا السن وبهذا العلم الذي آتاكم الله، بل من يعرفكم يعرف أنكم أخذتم من الدنيا النصيب الأوفر، وإنما نحن نثق في أنكم أردتم خدمة الأمة من باب اخترتموه، لكنه أدى بكم إلى غير ما كنتم تودون. ولكنكم تعرفون قبل غيركم أن الاتفاقية حصلت في ظرفية صعبة جدا بالنسبة لحياة الأمة، ما جعلها اتفاقية هزيمة ونكوص لا سلام. فأساس الأمة مهدوم، ونصف شعوبها أو أقرب إلى ذلك في حروب ومذلة وتقاتل، وإسرائيل متمادية في اغتصاب الحق الفلسطيني، وخيرات الأمة منهوبة وشعوبها في فقر مدقع وتشرد، ومؤسساتها ميتة تفرق ولا تجمع، فالجامعة العربية انتهت، ومنظمة المؤتمر الإسلامي ماتت، والأخوة العربية زالت، وليس هناك أي شرط من شروط الصحة في الجسم العليل، فكيف يمكن أن نتحدث عن سلام إلا أن يكون لفائدة العدو، كي يرتاح ويطمئن على مصالحه بينما نحن لم يتغير شيء في البؤس والتخلف والاستعمار الذي نعانيه منذ عقود؟.
فضيلة الشيخ عبد الله بن بية حفظكم الله
لقد قال رسول الله إن الدين النصيحة، ولو أني لست في مقام النصح لكم، وحاشا، إلا أن خطابي هذا لكم هو صرخة مثقف مسلم موجوع، يريد أن يراكم في صف الأمة لا في صف خصومها. فنتمنى من الله سبحانه أن يحفظكم ويحفظ بكم، وأن يعيننا وإياكم وجميع المسلمين، حكاما ومواطنين، على تجاوز المحنة، وأن يلهمنا جميعا الصواب والحكمة، ويدفع حكامنا إلى المراجعة، وما ذلك عليهم بعزيز.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...