كيف تصير مسلما في سبعة أيام ؟؟

(( في ضيافة الشيخ تقي الدين الهلالي ))
توابل قليلة تكفي كي تكون متطرفا حقا .. وبلا مبالغة ..
يكفي شوية إبزار على كمون على شوية تحميرة و بعض سودانية حارة وهاتي يا طنجية تبولة وها أنت مسلم حقيقي تكفر كل العالم ، مسلم نمرة واحد ..
شوية فقر على بعض كتب من الجوطية وكثير أحلام وسماء اجتماعية مسدودة تكفي ، يكفي تزيد كتاب معالم في الطريق لسيد قطب وكاسيطات العالم “كيشك” تسمعها على الريق ومع الظهر والليل قبل النوم ثلاث حقن مورفين كشك معتقة ودعاء النوم وأخبار سجون عبد الناصر مع زينب الغزالي .. وها أنت قد وصلت باب الجماعات الدينية ..
مرحبا أنت في حضرة الإسلام السياسي وأنت وجودك .. وعلى قدر أهل العزم تؤتى العزائم ..
يكفي أنك تلميذ ، لم تتجاوز الثمانية عشرة من عمرك وأنت كل صباح تخرج نحوثانوية المولى اسماعيل ، تخترق الفيلات والحدائق والشوارع النظيفة .. تسجل الفرق بين ما تعيشه وما تراه حولك من حيوات المحظوظين في مغرب السبعينات ، والأرض تغلي أحزابا وعسكرا وشبابا وسينما وجمعيات وحركات سرية تتقاتل داخل دماغك ، بين أخيك الأحمر الذي يقصفك كل يوم بمنشورات الرأسمال وصور غيفارا وكتابات روزا لوكسومبورغ المبثوثة في الكتيبات الصغير ة التي يحملها ساعي البريد قادمة من وراء البحار .. وبين انحصار كل شيء في دماغك ، ورجال حول الرسول ، كتاب يعيدك لزمن طهر الصحابة وكيف تصير “سمية” أول شهيدة في الاإسلام بينما عمار ابن ياسر يصنع تحديه من داخل دار الأرقم بن الأرقم ..
حياة “مصعب بن عمير”تغريك .. كل شيء يغلي داخل دماغك الصغير والمخاض كبير و عسير .. كل شيء حولك يصير قذرا ومتسخا .. وربما صار كافرا .. إنها جاهلية القرن العشرين .. جاهلية جاهلية وكل شيء صار جاهلية .. وما عليك سوى أن تفر بدينك إلى جماعة المؤمنين المسلمين حيث يلاحقك الذئب الذي يأكل من الغنم القاصية وما عليك سوى بالجماعة ولو كنت وحدك .. إن أبراهيم كان أمة .. وهاهي الجماعة والدين والإسلام والإيمان يأتوك كما البقرة بقرنيها وما عليك إلا أن تأكل وتحلب وتتلذذ بصحبة أجناد الأرض وأطهار المعمور وأنقياء شباب الكون ..
أليس خير البشر .. سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله وفي مقدمتهم شاب نشأ في عبادة الله .. إنها الجنة يا سليمان وهاهو الشيخ الجليل ذي المأئة سنة ، هو من لا يبصر شيئا ويكاد لا يتخكم في مثانته وأنت تقعد بين يديه كل مساء بين العشائين ، تتزود من علمه وفقهه وتوجيهاته وسط رجال رجال لم تعهد مثلهم من قبل .. هاهو يصير قدوتك ..
إنها فيلا الشيخ تقي الدين الهلالي وسط فيلات حمرية خلف مسجد إيران وهي مساءات ما قبل الهجرة في سيرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام ..
طوبى لك أخي سليمان ..
أنت الآن من عصابة الغرباء وقد عاد الاسلام غريبا كما بدأ.. وطوبى للغرباء ..
قبل قليل أديت فريضة العصر في مسجد إيران الفسيح جدا والزخارف تملأ جدرانه وسقوفه وسواريه .. زرابي مبثوثة في كل مكان والهواء غير الهواء وكأن نسبة الأوكسجين هنا أكثر والتنفس أسهل ..
لا أعرف لماذا أحسست أن لون الهواء صار أبيض في صدري وأنا قاعد استند لجدار السارية بظهري و أعيد كتابة تاريخ العالم في نفسي .. المسجد شبه فارغ وحلقة صغيرة من المؤمنين تتحلق حول الإمام في محراب يتلون ما تيسر من القرآن الكريم كما بعد كل صلاة .. وأنا أشرب تفاصيل المكان والمصلين والزمن كمن سقط فجأة في بحر عميق ويريد أن يتعلم فنون السباحة بجدفة واحدة .. وبسرعة ..
أريد أن أعرف ديني بسرعة .. تمنيت لو أن هذه المعرفة كما شربة ماء وأشربها دفعة واحدة حتى أرتاح من فتنة الحياة وأدخل طمأنينة الانتماء للاسلام وسكينة الايمان .. هي دهشة البدايات كمن تلامس أقدامه سطح القمر لأول مرة ويريد معانقة كوكب بكامله في حضنه ..
قريبا مني وقف شاب صغير ، أصغر مني سنا .. وقف يصلي وأنا مستغرق في حركاته وصلاته التي بدت لي غريبة وكأني أشاهد لأول مرة شخصا يصلي .. نعم بعكس أبي ، كان الشاب يصلي و هو يقبط مرفقيه على صدره والخشوع باد عليه ، يقف ثم يركع و يسجد بهدوء غريب وكأنه في عالم آخر .. صلاة أخرى هذه لا تشبه صلاتي ويجب أن أعرف من هو هذا الشاب ..
لم أضيع الوقت لحظتها ، وبمجرد ما انتهى من صلاته وسلم على يمينه ثم على شماله حتى اقتربت منه وبادرته بالسلام و السؤال .. والأخ جواد لم يكن من العاكزين حينها وكأنه كان ينتظرني في مسجد إيران ..
همس إلي جواد بصوت خافت أن انتظرني قليلا كي نخرج مع بعض ثم نتعرف على بعضنا أكثر ..
يستحيل أن أنسى دفئ جواد وكفه تصافح كفي وهو يتكلم بصوت خافت يغشاه كثير من الوقار و الحياء ..
– احنا خوت يا أخي ، أنا أخوك جواد أدرس سانكيام آداب بثانوية الإمام الغزالي ببرج مولاي عمر
كان جواد يتكلم بعفوية و صدق كبير وعاطفة شملتني حتى النخاع ، بينما أنا أتلعثم أمامه وهو الصغير ..
– أخوك سليمان وأدرس بثانوية المولى إسماعيل سيزيام علوم
لم يغادر كف جواد كفي وهو يقودني مثل المسحور عبر شوارع حمرية الجميلة ، نلتف من زقاق لزقاق وكل الكلام عن طيب الجنة والآخرة والدنيا الفانية ..
يا الله ما كل هذا الجمال وأين تعلم جواد كل هذه العلوم التي تفيض من لسانه ؟
مواضيع الكلام لا تنهي والوقت يزحف نحو صلاة المغرب .. وجواد يحوم حول الفيلات الموجودة خلف محطة القطار الأمير مولاي عبد القادر ..
آذان المغرب يتعالى من مسجد طرفاية القريب و نحن ندلف صحن فيلا الشيخ الجليل ..
– إنه بيت الدكتور تقي الدين الهلالي .. يلقي الدرس بعد كل صلاة مغرب ،
قالها جواد وأنا أكتفي بالصمت والهمهمة ، لقد صرت صغيرا حقا أمام جواد ..
بمجرد أن تدخل باب الفيلا تجد درجا ضيقا يقودك أسفل نحو الدهليز .. هناك حمامات صغيرة للوضوء والماء يتطاير من مرافق و لحى رجال من كل الأعمار .. فتيان و شباب من مثل سني .. ورجال شيوخ يكسو الشيب لحاهم الغير المشذبة .. من كل الأعمار كانوا ومن مظهرهم يبدو أنهم من كل الفئات الاجتماعية والوظائف .
– تقدم يا أخي .. أنت الأول أخي .. معذرة أخي .. تقبل الله منا ومنكم أخي ..
أخي أخي أخي أخي .. لقد دخلت بيت الأخوة بامتياز .. الحمد لله جواد أخي ..
قاعة الصلاة كبيرة حقا تشمل كل أسفل أرضية الفيلا ( لاكاب) والسجاد الأحمر يغطي أرضيتها وكل لحظة يدخل وافدون جدد و القاعد تكاد تمتلئ عن بكرة أبيها .. صفوف الصلاة تسوى ولا أعرف لم جواد قعد بعيدا عني ..
ساد الصمت حقا وشاب ضخم الجثة يقود أباه الشيخ الضرير إلى مقدمة القاعة .. كان الشيخ ضعيف البنية هزيلا حقا والمرض باد عليه يكاد صوته لا يسمع وهو يردد آيات القرآن الكريم في صلاة المغرب ..
الكل يسلم على الكل بعد انقضاء الصلاة وخشوع غريب يخيم على المكان وكأننا حقا في عالم ثاني لا علاقة له بمدينة مكناس التي أعرف ولاهي نفس أشكال البشر ولا لباسهم و لا طريقة كلامهم ولا كيفية صلاتهم ولا هذه السكينة التي يتصرف بها الجميع ..
كانت أول مرة في حياتي أعرف ما معنى الصلاة بالقبط .. ليصير السدل بدعة في عيوني والمصليان على يميني وعلى يساري يفرجان ساقيهما يضمان كعيبيهما لكعبي أقدامي حتى لو توجعت قليلا بمرفقيهما فوق خاصرتي فصف الصلاة المرصوص شرط بناء الأمة المؤمنة .. ألا يحب الله الذين يقاتلون في سبيله صفا مرصوصا .. وهنا تتداخل التمثلات و تبنى أفهام جديدة لماهية الدين و التدين و مدلولات النص القرآني المقدس .. وهنا يصير صف الصلاة استحضارا لجاهزية رص الصف لقتال العدو الكافر المحيط بجماعة المسلمين حتى ولو قل عددها ..
وحدها هي الفئة المسلمة وكل من هو خارجها فهو كافر ولو صلى وصام وحج ..
كان الشيخ يلقي الدرس و الشباب مكلفون بتسجيله بأدواتهم البسيطة حينها ، وهو الأمر الذي سينبه له أحد الشيوخ الكبار حين طلب من صاحب السجالة إذا ما نسخ التسجيلات السابقة للشيخ وأوصلها لمكانها المتفق عليه .. وهو الأمر الذي أكده كثيرون حاضرون بما يعني اشتراكهم جماعة في نشر دروس الشيخ و دعوته ..
هكذا حلمنا ذات صبا ..
نعم أنا التلميذ البسيط في سلك الثانوي الصغير السن سأبني دولة الاسلام و أعيد للاسلام أمجاده مع إخواني هي هذا العالم الذي تسيطر عليه الصهيونية والماسونية و الكفرة الشيوعيين شرقا و الكفر العلمانيين الملحدين غربا ..
نحن وحدنا المسلمون في هذا العالم والكل كفرة رغم ارتيادهم المساجد وكل تراويح رمضان لا تنفعهم ماداموا يساندون الطاغوت ولم يعلنوا كفرهم به .. إنها كتب سيد قطب و أخوه محمد بدأت تؤتي أكلها ومعالم في الطريق تتحول إلى شفرات ذهنية تحتل دماغي و هي من تنتج قوانين الفقه والأحكام لدي ..
أنا فخور حقا كوني أنتمي نفسيا لذاك الجيل القرآني الفريد وفي ظلال القرآن تحدد معالمه وتسيج حدوده من داخل سجن أبو زعبل حيث خط شهيد جماعة الإخوان المسلمين سيد قطب رحمه الله ، هناك خط معادلة الفصل بين مجتمع الاسلام والمجتمع الجاهلي .. جاهلية القرن العشرين .. هي دار حرب إذن ، حتى لو كانت بيتك ومدرستك ومدينتك وبلدك ..
كل صباح يصير العالم أكثر سوادا في نظري .. يصير بعيدا عني و عن نفسيتي و عن عاطفتي .. كي أحقد عليه حقا أو كي أحبه حقا و من موجبات حبي للعالم أن أدعوه للاسلام والخلاص في الدنيا و في الآخرة .. ولذلك سأنطلق من أسرتي كي تدخل الاسلام من جديد ..
– ممنوع يا أمي اليوم تمشيو للمقابر
– الله يهديك يا سليمان دخل سوق راسك واش نتا دري وليتي تورينا الدين
– راه حرام و سيد النبي حرمها واش نتي ماشي مسلمة
– راه الربعين د أمك (يامنة) لي ماتت و الجيران كلهم ماشيين يترحمو ف المقابر عليها ..
– اشمن امي يامنة ولا باكور .. سيدي ربي قال حرام حرام والسلام
لقد قررت أن أطبق شرع الله هنا وليكن ما يكون وهاهو مصعب بن عمير الصحابي الجلي يظهر أمامي كيف واجه أمه و قومه في عز الجاهلية حتى نصرهم الله على قريش و هاهي قريش أمامي وهي فرصة كي أنال الأجر والثواب ..
– والله لا خرجتي آمي
كانت أصواتنا مرتفعة و صباح الجمعة في بداياته وإذا بباب غرفة أخي خالد تفتح بقوة و يخرج نصف نائم وهو يرغي و يزبد و يسب ..
– مال (( الدين د ربك ططططط )) على صباح مصدعنا واش غي نتا لي مسلم .. خلي امك تمشي فين بغات .. ماشيثشغلك فيها
– واش الجنة غادي تدخلو ليها بوحدكم الإخوان سير تق… ططططططط
خالد أخي الذي يكبرني سنا بكثير كل ما كان يتقنه هو النوم نهارا والتسكع ليا .. هادي روج الفراكة زنيبر هادي تحييحة هادي شي مصيبة والموعد الكوميسارية .. سأحتاج سنين طويلة كي أفهم أن خالد أخي كان يحب الله بطريقته و تدينه بسيط رغم الشراب و كلشي ولكنه إسلام القلب البسيط الذي سيتحول بعد نضج العمر إلى حياة عادية كما أيها الناس وهم يضمنون استمرار قيم المجتمع بكل ألوانه وانتقالها بسيطة سوية معتدلة ..
خالد أخي اعتبرته حينها ابتلاء من الله كما أمي و علي الصبر و الصبر فقط فأنا في معركة مع العالم ..
ببساطة فأخي خالد لم يسمع كل ليلة الشيخ كشك وهو يصرخ في أذنيه حتى تهتز أحشاؤه من الحنق و الألم لما يقع في سوريا و في فلسطين و في الكويت و في مصر وما أدراك ما مصر ..
أخي خالد لم يقرأ أبدا عن معاناة زينب الغزالي والكلاب تنهش لحمها في زنازن الجلاد جمال عبد الناصر .. ولا يعرف أين يقع سجن أبو زعبل ولا أحمد رائف وهو يسجل تفاصيله في البوابة السوداء .. أيام من حياتي بل هي بالأحرى أيام من حياة زينب الغزالي والمناشير تقطع الإخوان هناك والجلاوزة يقطعون أظافر المجاهدين و يعذبونهم ..
ليالي طويلة وأنا أبكي مع مظلومية الإخوان ، وأعيش معهم عذاباتهم الصغيرة وكأني مصري يعيش في قلب المحروسة و الطاغوت يكتم أنفاسها ..
كان طبيعيا أن أحقد على جمال عبد الناصر والمشير عامر وكل الجلادين في سجون مصر التي حفظناها عن ظهر قلب .. ليتحول عندي كل الملوك والرؤساء والحكام والعسكر والبوليس وكل من يرتدي بدلة موحدة حتى سائق الطوبيس و الساتيام إلى جمالات عبد الناصر أحقد عليها باعتبارها تمثل شكلا تنظيميا معينا يخنق أنفاس الناس .. المهم لقد صرت أحقد على كل شيء والسلام ..
لقد انتهيت من زمن السراويل الطويلة وأصبحت أفضل القمصان الطويلة البيضاء القادمة مع أسراب الحجاج وأنا اضع في قدمي أي صندالة أو كلاكيط أو صابو أو سبرديلة مع العباءة التي لا تتجاوز كعباي ..
الإحساس بالتمايز على مستوى اللباس مهم جدا للانفصال عن العالم المحيط وكل نظرات الناس لا تهمني .. يكفي أن (( أبو راتب )) يشنف أسماعي طيلة النهار بأناشيده وكأني أقيم في حماة مع “مروان حديد” قائد الطلائع المقاتلة والحرب ضروس مع (حزب البعث الكافر ) ..
أماه ديني .. قد دعاني .. للجهاد وللفدى
أماه إني .. زاحف لل .. موت لن أترددااااا
أماه لا تبكي عليا .. إذا سقطت ممددا
فالموت ليس يخيفني .. ومناي أن أستشهدا .. ومناي أن أستشهدا
لقد تغير مظهري كليا وأنا أطلق لحيتي ..
هي لم تكن لحية حقيقية .. لحية لحية يعني ..
هي بضعة زغبات متناثرة هنا وهناك .. و أكيد جاتني قبيحة لكن ، لا جمال إلا جمال السنة والسمت والإلتزام بتفاصيل التعليمات النبوية الشريفة .. هكذا فهمتها والسلام وهكذا هم كل الإخوان في مجالس الدكتور تقي الدين و لقائات مسجد النور لقوافل التبليغيين في برج مولاي عمر من مشارق البلاد ومغاربها ..
اللحية هي رجولتك والله يكره الشاب الأملط .. وسالينا ..
لم أهتز حينها كثيرا لأخبار الإعتقالات في صفون الإخوان فأنا كنت في عالم آخر وأكملت مشوار جلسات الشيخ تقي الدين الهلالي وخرجات يوم الخميس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع إخوة التبليغ .. .. لكن البكالوريا التي هربت من بين أصابعي وأنا أستفيق على غياب إسمي في لوائح الناجحين في سبورة البكالوريا ببوابة لاللة أمينة ستحدث داخلي رجة عظيمة .. كانت زلزالا كبيرا سيغير مسار الأيام على سكة تحقيق الذات والحضور والشهادة على الزمن ..


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...