قيامة مدرس

يقول أحد المدرسين:
ربما سمع البعض عن مطعم الجامعة، وربما هناك من ترهلت معدته بوجباته الرديئة – من قُرّاء هذا المكتوب-، كنت أحد محترفي قرع المفاتيح من أجل شراء تذكرة دخول المطعم من طالب منّ الله عليه بوليمة طلابية، أو دعوة دسمة خارج أسوار الحرم الجامعي… وقفت مرارا في الطابور الأفعواني الملتف حول المقصف، واستمعت أثناء وقوفي للعديد من حلقيات الطلبة المنتمين إلى مختلف الفصائل، كانت عامرة بحماسة المعرفة وعنفوان التفكير والتحليل، لم أكن أنتمي لأي فصيل واحترمتهم جميعا وقدرت فيهم قيمة ومعنى أن تكون فاعلا في الحياة الجامعية، لم أنتمِ لأنني لم أقتنع، (بل كنت جبانا؛ استروها عني ستركم الله) وما ندمت في حياتي قط أشد ندما على بقائي في هامش تلك الحياة، وليتني تركت بصمة أعزي بها نفسي كإنسان فاعل في هذه الدنيا المستعجلة، فطعام الجامعة قد هُضم ولكن حسرة الهامش مازالت تلوك قلبي لوكاً…
مرت سِنون الجامعة وحصلت على دبلوم الماستر، ثم التحقت بحركة المعطلين في الرباط، أمضيت فيها أربع سنوات، أعدمت خلالها الجبن ومشتقاته داخل نفسي، كانت أزهى فترات عمري وأحلاها، حاولت استدراك ما فاتني من مشوار الرجال، فررت من شعوذة التعاقد منذ تم خطّها وخلط وصفتها فرار موسى من فرعون، اشتغلت مدرسا في مؤسسة خاصة، ولم يكن يعلق من راتبها في جيبي إلا ما يعلق على منقار الطير من ماء شربه، أزهرت في تلك المرحلة أولى شيبات شعري، فقلت لعل الخير في الغير، جربت الخياطة؛ ولكن تعلم الرقص يستعصي على القرد العجوز، مررت إلى التدقيق اللغوي على موقع جريدة إلكترونية عربية أجنبية مشهورة؛ أمتص ما تركته الكتب من ضوء عيني، فأخذتني الحمية على المغرب وأنا أدقق مقالا يطعن في المغرب والمغاربة، وكان أغبى ما فعلته أنني رفضت تدقيقه وطالبت بعدم نشره وآزرني في ذلك زملائي، فلم يمض كثير وقت حتى سُحب عقد التدقيق من الشركة التي تشغلنا، وبعدها تم فصلي عن مواصلة بحث الدكتوراه لأنني لا أملك رسوم إعادة التسجيل، واستمر الفقر في هد كياني وسد منافذ حيلتي ودحرجني حتى شربت من كأس الفرعون، أجبرت على قبول التعاقد اللعين مُعلّلا نفسي أن يتم التغيير من داخل الإطار، واحتسبت على فوج كورونا، وها أنا أنضمّ إلى قيامة المدرس، أنا في مدينة غير مدينتي ولكنني في وطني بين أهلي وعشيرتي، أكتوي بشوق الوالدين، غير أنه أهون علَيّ من أن أفزعهما يوما بآثار القمع على جسدي، صحيح أنني أنفقت من عمري سنين دون تحقيق مآرب الدنيا التي يسعى الجميع إلى تحصيلها، فلا مال ولا بنون، عشت كالدمعة المحجوزة في أحداق الوطن؛ تنتظر الخلاص في مناسبة سعيدة، ولست أرى سعادتي في السرور الفرداني رغم كثرة الوصوليين وأرباع البشر الذين يسحبون بك بساط التغيير في اللحظة الحاسمة، رغم الخذلان، رغم طغيان حراس المعبد، رغم جبروت خُدّاع الوطن، منعت قلبي أن يعشق؛ وبقيت على الحب المطلق، حيَّ على النضال.


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...