قضية الحريات الفردية… مقاربة مقاصدية

تقديم:
الحريات الفردية؛ مصطلح حديث التداول في المجال المعرفي المعاصر، وهو مركب وصفي؛ لا يخرج في معناه العام عن مجموع الأفعال والتصرفات الشخصية العينية؛ كحرية المعتقد، وحرية التفكير، وحرية التعبير، وحرية الجسد، وغيرها من الحريات الفردية خاصة كانت؛ أو تعاقدية رضائية في مختلف المجلات … إلخ “
وبما أن حرية التفكير وحرية التعبير ليس فيهما كبير خلاف بين مختلف التوجهات العقدية والفكرية؛ فإلى ما تيسر من النظر المقاصدي في حرية المعتقد، وحرية الجسد؛ باعتبارهما مناط الجدل الدائر بين حملة المرجعية الشرعية المقاصدية، ودعاة المرجعيات الدهرية اللادينية.
من القواعد المقررة أن ” الحرية هي الأصل في بني آدم.”[1] و أن ” الشرع متشوف للحرية.”[2] وأن ” من أهم المقاصد التي دل عليها الاستقراء؛ إبطال العبوديّة وتعميم الحرية.”[3] فلنبدأ بتأصيل مقصد حرية المعتقد.
1. تأصيل مقصد حرية المعتقد
من القواعد الشرعية العقدية الثابتة بالاستقراء التام لآيات الكتاب العزيز؛ أن ﴿ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ … وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ ( آل عمران: 19. 85 ). وهو ما يقطع بأن الله تعالى لا يقبل من الناس إلا ما اختاره ورضيه لهم من الدين؛ كما قال: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.﴾ ( المائدة: 3 ) وبموزاة مع هذا الأصل العقدي لم يصادر غيره من المعتقدات، ولم يرغم أهلها على اعتناق الدين المفضل لديه قسرا؛ بل لقد أبقى على حرية الاعتقاد الديني مكفولة للجميع، ولا أدل على ذلك أنه ما فتئ يبدئ ويعيد في تأصيل مقصد حرية الاعتقاد وتقريره في آيات كثيرة؛ منها قوله تعالى:
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.﴾ ( البقرة: 256 )
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.﴾ ( الكهف: 29 ).
﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ.﴾ ( الأنعام:107).
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.﴾ ( هود: 28 )
﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ.﴾ (ق: 45 )
﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ؛ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ.﴾ ( الغاشية: 22 ).
فهذه النصوص القرآنية كلها تفيد معنى واحدا؛ هو التأكيد على مقصد حرية الاعتقاد الاختياري؛ كما قال ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى:﴿ إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ.﴾: ( الشعراء: 4 ) أي: لو شئنا لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا، ولكنا لا نفعل ذلك؛ لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري.” وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.﴾ ( يُونُسَ:99 ) وقال:﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ.﴾ ( هُودٍ: 118، 119 )، فنفذ قدره، ومضت حكمته، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم.”[4]وذلك باعتبار أن ” أكرم ما في الإنسان حرية الاعتقاد. فالذي يسلبه هذه الحرية، ويفتنه عن دينه فتنة مباشرة أو بالواسطة، يجني عليه ما لا يجني عليه قاتل حياته … إذ في هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد. وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه. وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنسانـي … إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق ” الإنسان ” التي يثبت له بها وصف ” إنسان “. فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء.”[5]
وإذا تقرر أن الله عز وجل قد خلق الناس أحرارا وترك لهم الحرية في اختيار قناعاتهم، وتقرير مصيرهم بمحض إرادتهم؛ فلا حق لأحد في مصادرة هذا الحق البشري من أحد؛ إذ لا ولاية لأحد على أحد في الأصل. لأن ﴿ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ﴾ ( الكهف: 44 ). وهو ما يقطع بأصالة مقصد حرية الاعتقاد، ونبذ الإكراه عليه في التصور الإسلامي؛ لأن تجريد الإنسان من حرية الاختيار العقدي؛ يتنافى كلية مع مقصد البلاغ المبين؛ فليس من البلاغ في شيء أن يحجر على إنسان؛ ويفرض عليه ما لا يريده ولا يرغب فيه من المعتقدات والتصورات والأفكار والقوانـين والمناهج والأنظمة وغيرها. وذلك لسبب بسيط وهو أن ” شرط المؤاخذة على الأفعال أن يفعلها الإنسان بالاختيار.”[6]ولهذا شدد الشارع الحكيم على ضرورة تحرير الإرادة الإنسانـية من جميع الإكراهات حتى يتحمل الإنسان مسؤوليته كاملة في كل ما يصدر عنه من أفعال قلبية اعتقادية، أو عقلية معرفية، أو عضوية سلوكية؛ فلا يجد ما يتعلل به، عملا بقاعدة:” رفع الإكراه بالاختيار الإرادي”. بحيث لا يكون كما قال الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء.
وإذا تقرر أن مقصد حرية الاعتقاد هو الأصل، وأنه لا إكراه في الدين مطلقا؛ فكيف يمكن الجمع بين هذا الأصل المبدئي العقدي ودعوى قتل المرتد ؟ ذلك ما سنحرر القول فيه بشيء من التفصيل فيما يلي:
2. تحرير القول في قضية الردة
من القواعد المقاصدية المقررة؛ حفظ المقاصد الشرعية الكلية الخمس؛ التي إذا انخرم منها كلي واحد انخرم نظام الشريعة، وهو ما يقطع بضرورة حفظها سواء من جانب الوجود؛ وذلك بكل ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها ويديم وجودها. أو من جانب العدم. وذلك بكل ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فِيها. وفي مقدمتها حفظ كلية الدين .[7]
وعليه؛ فكل ما من شأنه أن يعود بالفساد الواقع أو المتوقع على مقصد ” الدين بما هو وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل.”[8] فدرؤه من آكد ما يجب؛ بحيث إذا تعارضت مصلحة كلي الدين؛ مع غيره من الكليات، كأن تكون أصوله وأحكامه كلها عرضة للزوال، ففي هذه الحالة تكون مصلحة حفظه أولى من كل شيء، وإن أدى الأمر إلى التضحية بجميع المصالح الأخرى،كما هو واضح في مسألة الجهاد ومقاومة الاحتلال وقتال المرتدين المحاربين؛ حيث تُجَيش كل الطاقات وترصد جميع الإمكانـيات، وتسترخص الأنفس والأموال وكل شيء من أجل مقصد حفظ الدين. وبما أن قضية الردة لها علاقة مباشرة بهذا المقصد الأساس. فما موقعها من القرآن أولا ؟ وما قوله في قتل المرتد ؟ ذلك ما نتعرفه مؤصلا مفصلا فيما يلي:
يتبع
[1]– بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع،لأبي بكر الكاساني، دار الكتب العلمية، ط2، 1406هـ/ 1986م،6 / 267.
– كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، لعبد العزيز البخاري، دار الكتاب الإسلامي، د، ط، ولا ت، 3/437 .
[2]– أحمد بن غانم النفراوي، الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، دار الفكر، د ط، 1415هـ/ 1995م، 3 / 1217.
– محمد الزرقاني، شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، 4 / 160.
[3]– مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور، م س، ص 289.
[4]– تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2، 1420هـ/ 1999م، 6 / 135.
[5]– في ظلال القرآن. لسيد قطب، دار الشروق. ط 10. 1412هـ/1992م.1 / 164، 291، 270.
[6]– حجة الله البالغة، لولي الله الدهلوي، بيروت، دار إحياء العلوم، لبنان، ط1، 1410هـ/ 1990م، 1 / 24.
[7]– الموافقات. للشاطبي، تحقيق. أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان. دار ابن عفان. ط1. 1417هـ/1997م. 2 / 18.
[8]– كشاف اصطلاحات الفنون، لمحمد بن علي التهانوي. كشاف اصطلاحات الفنون. تحقيق. علي دحروج. مكتبة لبنان ناشرون. بيروت. ط1. 1996م. ص 814.
– كتاب الكليات. لأبي البقاء الكفومي. تحقيق، عدنان درويش و محمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1419هـ/1998م،. ص 694.

شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...