الاختلاف الإسلامي ـ الإسلامي في خدمة الاستبداد السياسي

كيف يمكننا أن نفهم سر هذا الانقسام وهذا الانشطار في الجسم الحركي الإسلامي؟كيف يمكننا أن نضعه في سياقه “الحقيقي” و الواقعي؟ هل يمكن أن نصدق أن هذا الانشطار و هذا التشرذم، إنما مصدره الرغبة في خدمة المشروع الدعوي الإسلامي، كما تزعم بعض النخب ؟ لماذا الفُرقة، والإصرار عليها، و ما يجمع بين التنظيمات و الحركات أكثر مما يُفرق؟ لماذا تتوحد الأولويات و يتم الانقلاب عليها؟ ألم يأمر الإسلامُ العاملين له، و القائمين في “سبيله”،بالوحدة ونبذ الفرقة؟لماذا تصر الحركات الإسلامية على اعتبار اختلافها اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد؟

يتعلق السؤال هنا، بالأسباب الكامنة وراء هذا الاختلاف، والامعان في الاختلاف، الذي يصل إلى حد التباغض و التبديع و التكفير .

تحاول قيادات الجماعات الإسلامية أن تقنع نفسها أولا، و تقنع غيرها ثانيا،  بأن وراء هذا الاختلاف قضايا عقدية وفقهية تحول دون هذه الغاية، التي يتطلع إليها كل العاملين في المجال الدعوي، ولكنهم يسكتون تماما عن العامل السياسي الذي يمنع، فعلا وحقيقة، تحقيق هذه الغاية السامية، فهل صحيح أن هناك اختلافات عقدية وفقهية تصل إلى حد الحيلولة دون توحُد هذه الجماعات “العاملة” للإسلام، على الرغم  من أن هذه الوحدة  مطلب شرعي و فريضة إسلامية؟

لقد كان الدكتور فتحي يكن، وهو للإشارة واحد من أهم وأعظم الشخصيات الإسلامية التي ساهمت بشكل كبير في التنظير للعمل الإسلامي، و غطت أعماله جل القضايا و الإشكالات، التي همت العمل الدعوي في القرن العشرين، كما كان شأن جل المنظرين والمفكرين “الكبار” في ذلك الوقت، أقول لقد كان “فتحي يكن” واعيا بخطورة هذا الانقسام و هذا الانشطار، و واعيا أيضا بخطورته على هذا المجال، و لذلك، ولكون الدكتور فتحي طبيبا، فقد اعتبر هذا الانقسام” إيدزا” وحذر منه غاية التحذير، في كتابه “احذروا الإيدز الحركي”

والحق أن التحذير من فتنة هذه الافة، ومن مخاطر هذا المرض، الذي أطلق عليه المرحوم فتحي يكن “الايدز الحركي” من واجبات الدين، حيث يأمر جماعته بالوحدة،  والتمسك بما من شأنه ان يجمع و يوحد، و الابتعاد ،بالمقابل، ما أمكن، عما من شأنه ان يفرق و يشتت، حتى أنه أجاز التخلي عن بعض السنن و المندوبات قصد الحفاظ على وحدة الصف، غير أنه، وعلى الرغم من ذلك، إلا ان الجسم الاسلامي منقسم على نفسه،  مشتت و مفتت، و ما هو كذلك في كبير، و إنما هي الأهواء و الرغبات والمصالح.

كيف نفسر عمق الأزمة بين جماعة “الإخوان” و باقي الفصائل الإسلامية “السلفية” المتناثرة في الساحة؟ إن المبررات التي تقدمها الجماعات السلفية،  بكل عناوينها و الوانها، لهذا الحقد الدفين القائم بينها و بين جماعة “الاخوان” مثلا،  لا يمكن الاعتراف بها و لا اعتبارها، فقول “السلفية” مثلا أن جماعة “الاخوان” غيرت الدين، و ابتدعت فيه ما ليس منه، و أنها طائفة “بدعية”ـ حسب تعبيرها ـ مجرد دعوى تحتاج إلى دليل، و هي لا تأتي عليه إلا في معرض التشهير و الافتراء و التهويل، و نشر “المغالطة” لتضليل الناس وصرفهم عن تلك الجماعة، و هذه الاعتبارات التي توردها جماعات “السلفية” في معرض مناجزتها و منازلتها لغيرها، لا محل لها، عند التحقيق و الفحص، في الشرع و لا قيمة.

تقول جماعات “السلفية” أن “الإخوان” مبتدعة ضالون لأن عقيدتهم “أشعرية” و سلوكهم “صوفي” وهذا ما يعترف به الإخوان أنفسهم و لا ينكرونه.  ولكن هل كونهم “اشاعرة” يقوم مبررا للبراءة منهم و التحريض عليهم، و التشفي فيهم بما يلقونه من العنت و الشدة؟ أليس الأشاعرة هم أغلب جمهور علماء المسلمين و شيوخهم؟ بل هم أغلب المسلمين؟ أليس الزعم أن معتقد “السلفية”  هو معتقد الجيل الاول، المؤسس، محل نزاع، و أنه ليس مسلما لهم بذلك القول والمذهب؟

إنه مما لا شك فيه أن مذهب “السلفية” في العقيدة لا يسنده دليل واضح وصريح، تماما، كما هو مذهب غيرهم من السادة “الاشاعرة”و أن ما هو محل نزاع و نقاش، مما هو ملتبس، كان من نوع “المسكوت عنه” في “فجر الإسلام” و أنه لم يُنقل عن الرسول “ص” ما يفصل القول فيه و يرفع الخلاف، بل إن “الأشعرية” اليوم، لم تعد كما كانت بالأمس، و أنها تحولت إلى “سلفية” كما لا حظ بحق الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله، و أن “السلفية” اليوم، ليس لها من الحق في الاتصاف بهذا اللقب، إلا مثل الذي للأشاعرة.و هل ينهض كونهم “صوفية” دليلا شرعيا يجعل العداوة و البغضاء، و التآمر عليهم مسألة مشروعة و مبررة؟ أليس للتصوف،من الحق، من الناحية الشرعية مثل الذي لغيره؟ أليس الصوفية أيضا لهم قدر و نصيب من السلف،  و أنهم “سلفية” بمعنى ما و بمفهوم ما.  ألم يقولوا أن التصوف، عند التحقيق و التدقيق، ليس إلا تخلية و تحلية و تجلية كما قال الشاطبي رحمة الله عليه، و أنه يكاد يطابق مفهوم “الإحسان” كما في الحديث؟

واضح إذن، أن الزعم أن جماعة “الإخوان” أشاعرة و “صوفية” لا يمكن اعتباره مبررا شرعيا لهذا الانقسام . ويقولون ايضا أن تلك الجماعة تشارك في الإضرابات و المظاهرات وهي من “مبتدعات” الغرب، و لم يسبق للجيل المؤسس: الرسول “ص” و الصحابة، أن انخرطوا فيها أو شاركوا فيها، وهم ـ بالتالي ـ ينطبق عليهم قوله ص “من تشبه بقوم فهو منهم”، و أنهم يقولون “بالديمقراطية” الصنم، و واضح ما فيها من الشرك و الكفر.  الامر الذي يجعلهم على حافة الردة إن لم يكونوا مرتدين فعلا.

و الغريب في الأمر، أنهم يروجون للأتباع ان هذه القضايا من المقطوع به، و من المعلوم من الدين بالضرورة، أي ما لا يسع أحدا جهله، ويعلم كل من أوتي مسكة من عقل، أن هذا غير كائن و غير حاصل، حيث أن هذه القضايا غير مقطوع بشأنها، و أنها ليست معلوما من الدين بالضرورة ، و أنى لها أن تكون كذلك؟وهي من المسائل التي لم يتوقف النقاش حولها، و لم يرفع النزاع في شأنها، منذ شُرع في الخوض فيها و الكلام في موضوعها، وهي لا تزال مزاوجة بينها و بين الالتباس و الغموض. و إذا كان الخلاف بشأنها، قائما بين “اهل العلم” فكيف يصح أن يُلزم به “عوام المسلمين” و من هم من جملة المقلدة؟

و إذا كان الأمر بين جماعة “الإخوان” و غيرهم من “المتسلفة” على هذا القدر من الوضوح، أي أن النزاع بينهم ليس إلا نزاعا مفتعلا وصداما “مفبركا”، فلننظر الآن إلى الخصومة القائمة بين جماعات “السلفية” نفسها، اي بين “السلفية الجهادية” و نظيرتها من “السلفية العلمية” ، فغني عن البيان هنا القول أن ما يجمع بين جماعات “السلفية” أكثر بكثير مما يفرق، فهي تمتح من نفس الاصول، و من نفس المرجعيات و الأدبيات: مصادر عقيدتها و احدة، و مصادر “مذهبها” الفقهي و احدة،  و مصادر اختياراتها أيضا، واحدة، فما الذي يفسر هذه العداوة و هذا الخصام؟

إن الذي يُخالف بينها ، حقيقة،  هو الاعتبار السياسي، ليس غير. تتفق جل التنظيمات “السلفية” الجهادية وغيرها في جل القضايا “العقدية” و” “الفقهية” و لكنها تختلف في الموقف من الحكام : الرؤساء و الملوك، الذين لا يحكمون بالشريعة الإسلامية، فحيث تعتبرهم “السلفية الجهادية”طواغيت مرتدين يجب الخروج عليهم و الإطاحة بهم، لأن البيعة لهم تعتبر باطلة و لاغية بمجرد ردتهم، كما يقول الفقهاء، تجتهد “السلفيات” الاخرى في عدم التورط في هذا الحكم الخطير، و تبحث عن شواهد و حجج و أدلة تحلها من هذا الحكم و تنجيها من تبعاته، وهي تبذل قصارى و سعها، و تجتهد ما أمكنها الاجتهاد، حتى تبقى على صلة طيبة مع الأنظمة،  و حتى تظل قريبة منها و تستحق نوالها و عطاءها، و”الإرجاء” على أية حال، ليس إلا دينا يعجب الملوك كما يقول البعض، و الخلاف الدائر بينه و بين من يطلق عليهم “اهل السنة و الجماعة” حول مسمى “الإيمان” ليس إلا خلافا سياسيا، حتى و إن تدثر بلباس الدين، آية ذلك أن تصور ” أهل السنة و الجماعة” للإيمان يتعارض مع رغبات السلطة و رجال الدولة، في حين أن تصور “خصومهم” له، أي للإيمان، يخدم ذوي السلطان و الملحقين بهم، إذ إدخال العمل في الإيمان ـ كشرط صحة وشرط كمال ـ يُضيّق على الناس بضبطهم، و إخراجه منه، و جعله مجرد شرط كمال، يحررهم منه و يفلتهم من قبضته.

  واضح أيضا، أن سر هذا الصدام يكمن في السياسة، وليس في الدين، إذ حين تنتج الجماعات “الجهادية” فتاوى خارج السلطة و ضدا عليها، تنتج الأخرى فتاوى أخرى من أجل السلطة و خدمة لها، و حين تناور الواحدة من تلك الجماعات خارج رغبات السلطة تفعل، الاخرى عكسها فتفسد عليها خطتها. و حتى تتضح الصورة، نضرب هذا المثل،فحين تقرر جماعات “الإخوان” الخروج في مسيرات احتجاجية: إما تنديدا بممارسة قمعية من الدولة، و إما دعما لقضية عادلة للمسلمين، و تعتبر الخروج في تلك المسيرات لونا من ألوان الجهاد بمعناه العام و الشامل، تعمد الأخرى إلى التشكيك في مشروعية هذه الخرجات ، بحسبانها تقليدا للغرب و نقلا لأعماله التي نهى الشرع عنها. ولا تستفيد من هذا إلا السلطة، وذلك بعد أن كانت جموع “الإسلاميين” ستظهر في شكل كبير يسر المؤمنين و يغيظ خصومهم، يخرجون قلائل فتنكسر شوكتهم، و يبدو حجمهم باهتا لا وزن له و لا تأثير.

   ثم خذ مثلا غيره:  قضية التمرد على الأنظمة و الخروج عليها، فحين تخرج طائفة ما من طوائف “الإسلاميين”، بدعوى أن الأنظمة خائنة و “مرتدة”، و تسوق لدعم رؤيتها، و تجييش الناس عليها، عددا من النصوص و الشواهد، تنهض غيرها  لتفعل الشيء ذاته،  و لكن بالمقلوب،  فتأتي، ايضا، بالشواهد على بطلان رأي الأولى، و إثبات “إسلامية” الدول و “شرعية” الانظمة، وما ذاك إلا لتفت في عضد الاولى و تفسد عليها خطتها،  ولا يستفيد، أيضا ،من هذا الفعل إلا السلطة.

 ننهض من هذا الكلام كله، للقول أن تفتت الحركات “الإسلامية” و تشتتها، و عسر وحدتها، إنما يجد تفسيره في السياسة ، وقد سجل الدكتور” فتحي يكن” في كتابه السالف ذكره “احذروا الإيدز الحركي” من الأسباب التي تمنع هذه الوحدة المنشودة و تكرس حالة التشرذم و الانقسام، واعتبر من أكثرها، اللهث “وراء الغنائم” و “اللهث وراء السلطة و الحرص على بلوغ مراكز القوى” و”الارتهان الخارجي” الذي يفقدها استقلالها،، و يجعلها أسيرة في أيدي الجهات الممولة التي تدفع لها مقابل خدمات ترجوها منها، و”الاختراق الخارجي” .

إذن، الاسباب الحقيقية وراء هذا التشتت ليس كما يزعم قياديو الجماعات، اي لا يعود إلى اختلاف الرؤى والأفكار والبرامج كما يقولون .  من يدفع إذن، ومن يصنع و من يخترق، هم من يقف وراء الستارة لصناعة مستقبل تلك الجماعات و التنظيمات، وهم من يختبئ وراء الكواليس، لتسيير تلك الجماعات وفق الرؤية، و وفق الاستراتيجية المرسومة، و اولئك الذين يتحكمون ويترأسون، حقيقة، إنما يقدرون على ذلك عبر استغلال الأطماع، التي تتربص بها تلك القيادات و تحرص، أي الحصول على الغنائم وتحقيق المصالح المادية الرخيصة، وهي وحدها تفسر لنا حرص كل واحد منهم على التمسك بكونه قائدا و زعيما، و امتناعه عن التواضع و التخلي عن الألقاب، طمعا فيما عند الله، و خضوعا لأمره كما أوصى الله و أمر رسوله. 

 

    ا


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...