المهدي بن تومرت والتوفيق العقلاني ( بين المذهب السني والشيعي)

إن من الأمور الشائكة التي شغلت بال الأمة الإسلامية منذ ضحى الإسلام، هي تبادل التهم بين السنة والشيعة، فإذا كان لا خلاف بينها في الأصول والاختلاف يطال الفروع، فأن ذلك فتح المجال للمخلصين من النخبة الأمة الإسلامية – من العلماء والفقهاء والمراجع الدينية والثقافية – من ذوي النوايا الحسنة للتقريب والتوفيق بين السنة والشيعة ولكن كل المحاولات باءت بالفشل، لصعوبة الخطابين المنفصلين البعيدين كل البعد عن الاتصال بين الخطابين. فكانت اول محاولات في سنة 1948 م أنشأت دار التقريب في القاهرة إحتضنت الأزهر هذه الدار، شارك فيها كثير من العلماء السنة والشيعة منهم الشيوخ الأزهر المراغي ومصطفى عبد الرزاق ومحمود شلتوت والسيد عبد الحسين شرف الدين والسيد محمد أغا البروجردي وغيرهم . ثم تجمع العلماء المسلمين في لبنان عام 1982م ثم تلاه مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية في إيران عام 1990م ثم انتقل التقريب على شكل عقد ندوات ، وكانت أبرزها ندوتان المنظمة من قبل إيسيسكو في الرباط في سنة 1991م والثانية 1996م ثم تلتها المؤتمر حول التقريب في البحرين عام 2003م. إن المهتم بالشأن التوفيق والتقريب وبين المذهب السني والشيعي ، سيجد أن المهدي بن تومرت هو أول من تناول نظرية التقريب والتوفيق بين المذهبين منهجا وممارسة. إن من يطلع على النظر الفكري والعقائدي والسياسي والاجتماعي والفقهي لابن تومرت وكذا نظرته إلى أصول الحكم ومنهج الحاكمية،صح لنا ان نقول انه كان يشكل مذهبا قائما بذاته، يختلف عن كل المذاهب في المشرق من المالكية والشافعية والحنبلية والحنفية والجعفرية والماتريدية، ويتميز من كونه يشمل كل هذه المذاهب ويستغرقها ، إضافة إلى الأخذ بعلم الكلام من المتكلمين المعتزلة والأشعرية خاصة ، وكذا تأثره بفلسفة ابن حزم في الغرب الإسلامي وبأبي حامد الغزالي في المشرق و المذهب الجعفري الاثنى العشرية، بعد مكوثه ردحا من الزمان في العراق، حيث تشبع بالفكر الشيعي وعقائدهم، هذا فضلا على أنه يحمل ثقافة أمازيغية عقلانية في جناته بصفته من أصول الأمازيغية، ولا يفوتنا هنا التذكير أن الدكتور عبد المجيد النجار يشير في مؤلفه ” المهدي بن تومرت” على أن ابن تومرت سافر اول مرة لطلب العلم والمعرفة وشغفه بها ،إلى الأندلس وبالضبط إلى قرطبة التي كانت محجا لطلب العلم من كل العالم وخاصة العالم الغربي الذي كان يولي اهتماما بالغا باللغة العربية والثقافة الإسلامية، ويمكن القول أن بداية النهضة الأوربية منطلقها وبدايتها من الأندلس، فإذا كان ابن تومرت يعد في نظري ظاهرة بفكره الثاقب،وتمكنه بكل المذاهب،ومنهجه التوفيقي بين المذاهب، فلقد كانت لديه منهجية خاصة به استطاع أن ينفرد بها في كل العالم الإسلامي وذلك يرجع إلى كون العقل المغربي تاريخيا لا يعرف السكون والجمود، وكان دائما يثور على كل ما يمثل السكون والجمود الفكري أو العقائدي ،الذي يقف حائلا بين الاجتهاد والتطور العقلي، ففي الوقت الذي نجد ابن تومرت يأخذ بالمذهب المالكي،نجده ايضا يشهر سيفه لمحاربة فقهاء المالكية علما ان مكانة المذهب المالكي عند المغاربة مقدسة ،وهذا الهجوم على المالكية ورفضها علانية في خطبه جرأة اكتسبها من تمكنه بالمذاهب أخرى وخاصة المذهب الشيعي،فلم نجد فقهاء في المغرب سبقوه يهاجمون المذهب المالكي في ثوابته، وينتقدونه من داخل المنظومة المالكية ذاتها سيرا على منوال ابن حزم ،فكان يعتبر مذهبا قائم الذات متجاوزا المالكية ، فقد كان يرى أنه يجب أن يعيد النظر فيها وتجديدها ، وعلى المستوى النظري كان يميل ويرجح مذهب ابن حزم الذي يأخذ بالظاهرية أي الرجوع إلى الأصول دون وساطة ، في الوقت الذي نجد فيه ابن حزم يكن العداء الشديد للمبادئ التي تؤسس العقيدة السنية ويرفض الأسس المعرفية التي يقوم عليها الفكر الشيعي الإمامة والمهدوية التي يؤمن بها أشد ما يؤمن ابن تومرت ، فإذا كان يلاحظ عليه أن نسقه الفكري، وتوجهه التنظري، استعمل المنهج التمزيجي بين ما ينكره مذهب عن الآخر، الذي كان يصل الاختلاف بين المذاهب التي أخذ بها وتبناها إلى حد تكفير مذهب للآخر، وهذا النهج الذي أخذ به ابن تومرت جعله متميزا عن الآخرين وكسب لنفسه قوة البرهان العقلي والإقناع، وقد يرجع قبوله لهذا النسق الفكري الجديد إلى جذور تكوين العقل المغربي المبني على العقلانية النقدية . إن ما يميز ابن تومرت عن غيره هو أنه أطلق العنان لعقله ولم يقيده، وكان يسبح في بحر كل المذاهب بدون إبراز العداء لاي مذهب، فكان همه هو الإحاطة ما أمكن بفروع وأصول كل مذهب، وإنه كان ينهل منها جميعها إيمانا منه لما للعلم من اهمية ودرجة عالية في حياة الإنسان، ويظهر هذا من خلال عنوان مؤلفه المشهور ” أعز ما يطلب ” المقصود به هو طلب العلم .ولقد يرجع الفضل في التنوع الفكري الذي اكتسبه ابن تومرت الى سفره الى قرطبة لطلب العلم، ثم إلى العراق،حيث لبث في هذا البلد زمنغ غير يسير، التقى فيها بأبي حامد الغزالي وتتلمذ على يده، بل يحكى أن هذا الأخير رفع يديه ودع له بالنصرة والقضاء على المرابطين الذين أحرقوا كتابه إحياء علوم الدين عندما علم بذلك، وتزامن تواجده في العراق بسمة ضعف سلطة العباسيين، وصعود حكم السلاجقة الذي عرف العلم والعلوم ازدهارا كبيرا في عهد نظام الملك الذي كان شغوفا بالاشتغال والاهتمام بالعلم والعلماء. ويمكن القول أن عقلانية ابن تومرت قد استمدها من خلال تأثره،بفكر المعتزلة و بالمذهب الشيعي،هذا فضلا على إلمامه بالمذهب المالكي وغيره من المذاهب السنية، ما جعلني أقول أن ابن تومرت هو أول من قام بالتوفيق بين المذهب الشيعي والمذهب السني في العالم الإسلامي، ويظهر ذلك عندما مزج بين مبادئ المذهبين وبين الخطابين بل استعمل ووظف ومزج بين المصطلحات ترجع الى النسق الفكري لمذهب دون الآخر،ويظهر جليا من خلال مؤلفه أعز ما يطلب الذي جاء فيه ” هذا باب في العلم وهو وجوب اعتقاد الإمامة على الكافة، وهي ركن من أركان الدين، وعمدة من عمد الشريعة، ولا يصح قيام الحق في الدنيا إلا بوجوب اعتقاد الامامة في كل زمان إلى أن تقوم الساعة … “لقوله تعالى ‘ إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ‘ ولا يكون الإمام إلا معصوما من الباطل لهدم الباطل …لا بد أن يكون الإمام معصوما من هذه الفتن ” يستفاد من المهدوية ابن تومرت أنه تأثر بالمذهب الاثنى عشرية ولم يكن تأثير فكريا فحسب بل عقائديا، ويقول أبو عبد الرحمان بن طاهر وهو من علماء الموحدين صاحب ” الرسالة الكافية في البرهان على المهدي ” ولقد اعتمد فيها لإثبات أمر أمام المهدي على منهج التحاور بين النفس الأمارة بالسوء التي تطرح شكوكا في الامام المهدي وعصمته، وبين النفس اللوامة التي تزيل الشكوك بالبراهين العقلية والنقلية، وهذا التمكن العقائدي جعلته ان يأخذ بمبادئها، وأن يوظفها توظيفا أيديولوجيا للوصول إلى الحكم ، وسيجد الباحث أنه لم يسبقه أحدا في التوفيق بين المذهب السني والشيعي على مستوى ممارسة الحكم بين المسلمين، وهذا يرجع إلى إعمال العقل وترجيحه على كل ما هو إخباري،كما كان يفضل المذهب الظاهري الذي يصبو إلى الرجوع إلى الأصل دون وساطة. لقد كان لابن تومرت الفاضل الكبير في ترسيخ العقيدة الأشعرية بأهل المغرب ،فيكون بذلك أول من جعل هذا المذهب له أهميته في الحياة الدينية للمغاربة. فالمغرب لم يكن قبل رجوع ابن تومرت من المشرق يعتنقون مذهب الأشعري كعقيدة، وإن كان حسب الدكتور عبد المجيد النجار أنه لم يكن أشعريا خالصا في تفكيره العقدي، إلا أنه كان موحدا لله حسب مبادئ علم التوحيد عند الأشعرية والمعتزلة ويظهر ذلك من خلال رسالته “المرشدة ” التى كتبها ابن تومرت وكانت واسعة الانتشار ،كما كان لها الأثر البالغ في تحويل العقدي في المغرب من تصور سلفي إلى تصور يقوم على التأويل .ولقد استهل المرشدة العلم بالله وسميت بالمرشدة لأنه افتتحها بعبارة (إعلم أرشدنا الله وإياك…) تعتبر الامامة عند ابن تومرت جوهرية وركن في حياة البشرية وأصلها عنده ذات نزعة شيعية ، وهي أن الكون لا يقوم نظامها إلا بالإمامة ، واعتبر الامامة بعد الرسول عليه الصلاة والسلام هو أبو بكر واختاره للصلاة بالناس ورضيه لهم إماما في دينه.من كتابه الامامة : ثم من بعده كان الإمام عمر فقام بالحق أحسن قيام .نفس الكتاب : ثم يشير بعد ذلك إلى إمامة عثمان وعلي في نفس الكتاب ويقول: ثم الأمر كذلك كذلك حتى انقضت مدة خلافة النبوة ثلاثين سنة بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم) يلاحظ كيف وفق وقرب ابن تومرت بإحكام وحكمة متعالية بين جوهر اختلاف بين المذهبين السني والشيعي، وهي من النقط المستعصية التوفيق فيها بين المدرستين ،فاستطاع أن يجد مخرجا لها خصوصا فيما يتعلق بالعصمة، وحسب رأيي فإن العصمة في الإمام مفهومها تعني العصمة الدنيوية والتي تعني النية في إصلاح ظروف الحياة للرعية، وليست العصمة الدينية المبنية على المسائل عقائدية كما اعتقد.


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...