العقــل هو التاريـــخ

ليكون تواصل مع القارئ، لا بد من التعرف على أبجدية المبادئ التي أنطلق منها في بحوثي التي أكتب فيها، وأنا لا أطمع في إمكانية تحقيق تواصل إلا مع شريحة معينة، ولكن من المفيد أن تكون المبادئ معروضةً أمام أكبر عدد ممكن من الناس، وأنا في مقالي السابق حاولت أن أعرض أهمية مبدأ المرجعية التاريخ، ولكن تجاربي في هذا الموضوع لا تجعلني أتفاءل كثيراً في أن القارئ يتواصل معي في إقرار هذا المبدأ، فحين أطرح هذا الموضوع أواجه باستنكار، كيف تجعل التاريخ مرجعاً للفهم، والتاريخ أكاذيب ودجل والناس لايكتبون الحقائق، فأضطر إلى أن أوضح ما أقصد بالتاريخ، فالتاريخ ليس ما يكتبه الناس، سواء كانوا مؤيدين أو معارضين للأوضاع، ولكن التاريخ ما تؤول إليه الأمور والأحداث، أي ما يطلق عليه القرآن عاقبة الأمور، إن التاريخ ليس ما كتبه مناصرو الاتحاد السوفيتي أو معارضوه، ولكن التاريخ هو العاقبة التي وصل إليها الاتحاد السوفيتي، وحتى لا نكون متحاملين على دعوة الاتحاد السوفيتي في حل مشكلة الظلم، فإن هذا المطلب لا يزال قائم، وهدف إنساني، وكذلك ينطبق هذا على الدعوة الإسلامية، فليس التاريخ الذي يكتبه مناصرو الدعوة القرآنية هو التاريخ، ولكن ما آلت إليه حال حملة الدعوة الإسلامية.

لا تسخر من الذي يعثر قبلك، ولا ترم الناس وبيتك من زجاج، فإن مبدأ العدالة بين الناس مطلب بشري وهو لب ما جاء به الأنبياء (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمة يعظكم به).

وإن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ولكن نحن العرب المسلمين نخاف من ذوي القربى في النسب أو الدين أكثر من الذين نسميهم اعداءنا وحرب الخليج الثانية كشفت.

لأن حرب الخليج الأولى والثانية من أيام الله ينبغي أن نتذكرها ولا ننساها أبدا لأن هذا الحدث كان تاريخيا وعاقبة لمواريث وأوزار نحملها ومبادئ لم يضئها التاريخ بعد وهذا ما نحاول إضاءتها من دون أن نحمل حقدا ولا غلا لأحد لأن الأمر بحسب المبادئ التي أريد أن أقررها “من عند أنفسنا ” وليس من عند الله ولا الرسول ولا آدم وزوجه ولا الشيطان وإنما من عند أنفسنا ومن عندي بالذات، ينبغي أن أؤدي ما علي في حل عقدة الإنسان مستعيناً بالتاريخ الذي لا يرحم أحداًٍ، ولا يحابي أحداً.

وأنا لما أقول عن التاريخ مرجع ليس مرجعاً لي فقط بل الله جل وعز يتحاكم إلى التاريخ ويقبل أن يحاكم بالتاريخ فإن التاريخ صار حكماً بحسب القرآن وصار مرجعاً لفهم قوانين سلوك البشر ومبادئهم القرآن يقول لنا (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين). هذا مبدأ وقانون وسنة قرآنية يطلب منا هذا المبدأ أن ننظر إلى الماضي الخالي من قبلنا لأن الماضي يحكمه قانون قبل نزول القرآن وقبل مجيء الأنبياء وهذا ليس غيباً وإنما شهادة يمكن النظر إليها بالعين لمشاهدة الآثار الباقية، الآثار تتحدث لغة لا يمكن أن يردها أحد لأنها مشاهدة سواء كان في آيات وسنن الأفاق أو آيات الأنفس المجتمعات البشرية وتاريخهم فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين للعدل بين الناس والقرآن حين يقول ” ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد “.

هذا قانون وسنة ومبدأ ثابت وراسخ، لن يتغير ولن يتحول، كذلك كان في الماضي، وهو لا يزال كذلك الآن، وهو سيبقى في المستقبل أيضاً كما كان ولا يزال، ونحن نستطيع أن نقول على نفس السنة والقانون والمبدأ، ألم تر كيف فعل ربك بالاتحاد السوفيتي، وألم تر كيف فعل ربك بهتلر وبنابليون ورثاء الرومان، وألم تر كيف فعل ربك بشاه إيران وريث الفرس،

ويمكن أن نعدد.

ولقد مارس القرآن هذا التعداد أحياناً بتفصيل طويل مطول وأحياناً بإيجاز شديد جداً بذكر الأسماء والعناوين فقط كما في سورة (ق) حيث يقول:” كذبت قبلهم قوم نوح(1)،وأصحاب الرس(2)، وثمود(3)، وعاد(4)، وفرعون(5)، وإخوان لوط(6)، وأصحاب الأيكة(7)، وقوم تبع(8)، كل كذب الرسل فحق وعيد”.

ونحن يمكن أن نزيد القائمة ونقول ألم تر كيف فعل ربك بمسلمي هذا الزمان، الذي نعيش فيه، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، مستباحة أرضهم وأموالهم و… وعددهم كثير، وهم غثاء كغثاء السيل والزبد، الذي يذهب جفاءً، يفصَل لهم، فيلبسون ما يفصل لهم، ويستجيبون لما يريد الآخرون منهم من غير أن يصرح بالطلب منهم، استبطنوا وضعهم ومكانتهم، وأنا ليس همي تعداد المآسي والأحداث، ولكن همي أن اثبت مبدأ مرجعية التاريخ، الذي ربما لا قدرة لي على جلائها كمبدأ قرآني نبوي وعالمي، مرجع معرفة الصواب وخطأ البشر هو التاريخ، والله يأمرنا بالتحاكم إلى التاريخ الماضي، ويتحدانا بالمستقبل أنه سيكون كما كان في الماضي، ولن تتبدل السنن والمبادئ ولن تتحول وتتبدل وتتغير العواقب.

والرسول(ص) بكل الهدوء يقرر هذا حين يقول بلغته الخاصة حين يقرر هذا المبدأ “إنما أهلك من كان قبلكم انه إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد”.

لا يقول الرسول هذا قول الله ولا يقول هذا قولي وإنما يقول: هذا قول التاريخ، وأن من يفعل ذلك من المجتمعات سيهلكون كما هلك الذين من قبلهم، وفي حديث آخر يقول عن أمور ستحدث في المستقبل لقوم ذهب عنهم ” العلم”، فلم يستطع الصحابي الذي سمع من الرسول هذا الحكم الذي حكم به فاعترض عليه قائلاً: كيف يذهب العلم يا رسول الله إننا قرأنا القرآن وسنقرئه أبنائنا وسيقرئ أبناؤنا أبناءهم وهكذا، فكأنه يعترض على قول الرسول(ص)، أنه حين يذهب العلم تحدث المشكلات، فقال الرسول: ثكلتك أمك يا بن لبيد، أو ليست هذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء.

إن تعليم الرسول لصاحبه كان تعليماً تاريخياً، فلم يقل لصاحبه قال الله، ولا يحق لك أن تعترض، ولم يقل أنا رسول لا يجوز لك أن تعترض علي، بل ترك الرسول قول الله بالمعنى الذي نفهمه، وترك احتجاجه بأنه رسول الله ما ينطق عن الهوى، وإنما لجأ الرسول إلى واقع اجتماعي تاريخي مشاهد أمام صاحبه وأمام كل أحد، إلى أهل الكتاب السابقين الذين فقدوا العلم ففقدوا الانتفاع بالكتاب، بل إنه من الواضح جداً أن هذا القانون والسنة التي انطبقت على أولئك ينطبق علينا وعلى من سيأتي بعدنا، فإن الذي لا يعود ينتفع بالتاريخ وآيات الله في الآفاق والأنفس، لا تعود تنفعه آيات الكتاب.

إن من لا قدرة له على الاستفادة من الواقع المشاهد، فلن يتمكن من الاستفادة من الكتاب، لأن مرجع الكتاب الواقع والتاريخ، فحين لا يصدق الإنسان التاريخ يكون وقع عليه قول ربك ” إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم”.

إن الحربين العالميتين أيقظ الأوربيين من عذابهما الأليم، فهم يعملون الآن وحدة أوربية بكلمة العدل والسواء، إن في ذلك لآية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...