المؤسسات العليا للمراقبة واليقظة بالمغرب

رصد المغرب

نعني بالمؤسسات العليا للمراقبة واليقظة watchdog agencies وفق ما هو متعارف عليه عالميا، المؤسسات التالية: الجهاز الأعلى للرقابة المالية والمحاسبة، جهاز المنافسة، جهاز مكافحة الفساد ومؤسسة الوسيط، بوصفها أجهزة ذات أدوار واختصاصات ضبطية وعقابية وتنويرية، تمارس وظائف المراقبة واليقظة والتتبع من أجل استباق المخاطر ومنع حدوثها عند الاقتضاء وزجر مرتكبي المخالفات الماسة بمناخ الثقة العامة، وكذا التحفيز على التغيير والإصلاح والتطوير. لكنها تتقمص أدوارا لا تخلو من صعوبة ودقة وتشتغل في محيط متغير وقد يكون غير متفهم لمكانها ومكانتها، وقد تجد نفسها بالتالي في عين عاصفة الصراع السياسي بخصوص بعض القضايا الحساسة أو المثيرة للجدل.

من المهم أن نشدد بداية على أن جميع هذه الأجهزة العليا (باستثناء الوسيط) تتجاوز المساءلة الموضوعية للسياسات العمومية إلى المساءلة الفردية للمسؤولين وتحريك المسطرة العقابية على تنفيذ هذه السياسات، وهي تمثل مركز قوة وتأثير لموازنة السلطة التنفيذية ولمراقبة ومحاسبة الفاعلين السياسيين الحاكمين خلال سريان مدة الانتداب وليس بعد انصرامه، مع الإشارة إلى أن مؤسستي المنافسة والنزاهة قد لمعتا -لا تزالان- بغيابهما في الأحداث المتلاحقة التي تعرفها الحياة العامة المغربية في شؤون تقع في صميم اختصاصاتهما كالفساد والغلاء والاحتكار.

وفقا للمعايير الراسخة والممارسات الناجحة الدولية ينبغي لهذه الأجهزة إذا كانت تريد كسب الثقة أو ترسيخها أو استعادتها أن تتفادى الوقوع في المحرمات الثلاث التالية:

المحرم الأول: أن لا تكون عبارة عن “كلاب هجوم”: أي ألا تتحول إلى أدوات وظيفية في تكتيكات الهجوم الشرس على الخصوم… وبدلا من ذلك أن تهيأ لها الظروف والإمكانيات لتلعب دورها الدستوري الاستشاري بما فيه “الاعتراض الناعم” المتوافق على مصداقيته، ومع أن بعض الفقهاء الدستوريين والمعلقين على دستور 2011 يتحدثون عن سلط مضادة…. إلا أنني لا أوافقهم الرأي. فهذا مبالغ فيه على الأقل في سياق “توازن السلط والمراقبة المتبادلة” في السياق المغربي…

المحرم الثاني: أن لا تكون عبارة عن “نمور من ورق”: وهذا التحذير موجه لأجهزة محددة ذات صلاحيات تقريرية كمجلس المنافسة وهيئة النزاهة (مكافحة الفساد) والمجلس الأعلى للحسابات، بحيث عليها ألا تعطي الانطباع بكونها تكتفي بالتفرج أو بالتسجيل…. أو أنها تشتغل بمنطق الانتظار والتسويف والأضواء الصفراء والخضراء وفق ما جاء بالتعبير الواضح الصريح في التقرير العام حول النموذج التنموي الجديد…

المحرم الثالث: أن لا تكون بمثابة “معامل طبع للأوراق”: تعمل وتنتج وتقدم تقارير وجداول وأرقام ورسومات بيانية بأرفع تقنيات الاستعراض المكتوب والمسموع والمرئي. أي في كلمة تعطي الانطباع بأنها تشتغل “سكر زيادة”. غير أنها في الواقع العملي لا أثر لها ولا مفعول، سوى مفعول استهلاك الموارد المادية والمالية والبشرية والزمنية. وقد ندد بها ضمنيا الخطاب الملكي سنة 2014 الذي رفع البطاقة الحمراء ضد تقارير الاستعراض والاستهلاك…

بخصوص توصيف “الانتقائية” فهذا التوصيف يحمل من وجهة نظري مدلولين متناقضين، سلبي وإيجابي، فهي تشير للاستقلالية والحيادية وقد تشير للخضوع لمواقع النفود أو للتحيز المسبق، لكن بقدر اشتغال هذه المؤسسات وفق المعايير المتعارف عليها من حيث الحكامة الداخلية والالتزام المثمر والناجع إزاء الأطراف صاحبة الشأن والمواطنين، وبقدر تبنيها قولا وفعلا لمعايير الشفافية والمسؤولية والمهنية بقدر ما تكون هذه المؤسسات تعطي الانطباع على أنها تتجه نحو البعد السلبي أو نحو البعد الإيجابي للانتقائية. وينبغي في هذا الصدد أن نكون موضوعيين وأن نتبنى مقاربة متوازنة ومنصفة أي أن نلتفت للإكراهات التي تشتغل في ظلها هذه الأجهزة، وأن ننتبه إلى التمايزات في آليات العمل وحدود الاختصاص وفي ما بين الإمكانيات الحقيقية (تركيبتها ومختلف أنواع مواردها كميا وخصوصا نوعيا) والإنجازات الحقيقية والمحتملة، ثم لا نتغافل عن حداثة التجربة…

من الملاحظ أن هذه الأجهزة تشتغل في سياق معادلات سياسية قد تكون أحيانا غير صحية (حذر الحكومة أو غموض موقفها) ومحددات دستورية وأعراف إدارية وأنماط سلوك ثقافي، فضلا عن التحدي الأكبر ألا وهو تماسك الجبهة المضادة للإصلاح… أما في المعايير والممارسات الموفقة الدولية فهذه الأجهزة تتميز بخاصية الاستقلال الذي هو رأسمالها الرمزي الحصين، لكن هذا الاستقلال تقابله -سواء بسواء- الشفافية والخضوع للمحاسبة، فهذا المبدأ الأخير من النظام العام لا يستثني أحدا بما في ذلك هذه الأجهزة ومسؤوليها، وفق تصريح الإرادة الملكية والتقارير السنوية لهذه المؤسسات العليا ينبغي أن تتضمن جزأين: جزء أول حول خلاصات وتوصيات التقارير والدراسات المنصبة على السياسات العمومية يشكل أساسا لمساءلة هذه الأخيرة، ولكن هناك جزء ثان نادرا ما يتم الاهتمام به من طرف الباحثين والإعلاميين، وهو الجزء المتعلق بكيفية تدبير شؤون هذه الأجهزة الداخلية ومدى تحقيقها للأهداف التي سطرتها مقارنة مع الموارد التي استهلكتها، هذا الجزء هو الذي يقدم حساب هذه الأجهزة ويجعلها تحت مجهر المحاسبة من طرف من فوضها وهو الملك ومن ورائه الرأي العام، ولذلك يجب أن تلتزم هذه الأجهزة بمعايير الشفافية التي تقتضي الإفراج عن توجهاتها الاستراتيجية وخطتها التنفيذية وأهدافها المتوقعة مع مقارنتها بأهدافها المحققة، ومن المفترض أن توضح أثر ما قامت به من أعمال وما أنجزته من تقارير، ويحتفظ البرلمان -رغم أنها مستقلة عنه- بحق النظر في هذه الأعمال إلى هذا الحد أو ذاك، بمناسبة مناقشة ميزانياتها السنوية والمصادقة عليها…

فهيئة النزاهة ومكافحة الفساد مدعوة لتفسير هذا التأخر في استكمال بنيانها المؤسساتي والبشري والتنكب عن التعقب الفعال والناجع والعاجل لماكينة الفساد الفتاكة والسريعة الدوران… ومجلس المنافسة مطالب بالإجابة على سؤال ماذا حقق خلال السنوات الماضية ولماذا هو مشلول أو شبه جامد؟ وكيف يبرر نفقات مسؤوليه وموظفيه؟ والمجلس الأعلى للحسابات، صحيح أنه هو الأنشط من بين مؤسسات المراقبة واليقظة لكنه يبقى مع ذلك مطالبا بالجواب الشفاف والدقيق على سؤال ما الذي حققته تقاريره ومساءلاته من قيمة مضافة للرد على الأصوات المشككة في فعالية دوره أو في توازن تدخلاته. وصحيح أيضا أن هناك بداية وعي بهذه الشروط مع العهد الجديد بالمجلس المذكور، لكن علينا أن ننتظر ونراقب الاصلاحات الواعدة الجديدة وهي تعيش حياتها وبعد ذلك نرى مدى رسوخها واستدامتها وبالتالي نحكم على مدى مصداقيتها…..


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...