الكلاب الضالة.. الجائحة الصامتة

رصد المغرب

كارثة إنسانية بكل المقاييس، حضرت فيها كل طقوس العنف والألم والقوة والقسوة والموت البشع، ارتبطت بالطفلة البريئة التي تعرضت منذ أيام لهجوم شرس من قبل كلاب ضالة بنواحي أكادير، عاثت في جسدها الصغير نهشا، عجل بترجلها المبكر عن صهوة الحياة، كما ترجل عدد من الأطفال المغاربة الذين غادروا عالمنا بصمت، في ظروف وسياقات مختلفة، تقاطع فيها الإهمال والإقصاء والفقر والبؤس وأخواته.

الرحيل المأساوي لطفلة منطقة سوس رحمها الله يفرض استحضار كارثة أخرى تكاد تكون مماثلة، كانت مدينة الداخلة وتحديدا منطقة العركوب مسرحا لها منذ أسابيع، ارتبطت بسائحة فرنسية في عقدها الخامس حلت بالمنطقة من أجل السياحة والاستجمام، قبل أن تفارق الحياة بسبب مضاعفات ناتجة عن تعرضها الفجائي لهجوم شرس من قبل عصابة من الكلاب الضالة كانت تفرض سلطتها المطلقة على المكان. كما يفرض استحضار العديد من المواطنين الذين فارقوا الحياة بسبب الكلاب الضالة، أو تعرضوا لإصابات بليغة ترتبت عنها عاهات مستديمة لم ينفع معها علاج.

ما حدث في نواحي أكادير والداخلة وفي مدن ومناطق مغربية أخرى يفرض أكثر من أي وقت مضى توجيه البوصلة كاملة نحو “جائحة الكلاب الضالة” التي باتت جزءا لا يتجزأ من شوارعنا وطرقنا وأحيائنا، أمام مرأى ومسمع من يملكون سلطة القرار الإداري من سلطات ترابية وصحية ومجالس منتخبة الذين يكتفون بلعب دور “الكومبارس”، تاركين الكلاب الضالة تعيث في الأرض عبثا وخوفا وهلعا وتهديدا، إلى درجة أن الكثير من هذه الكلاب الضالة باتت تشكل ما يشبه “العصابات” الخارجة عن القانون التي تفرض سلطتها المطلقة على الكثير من الشوارع والمدارات الطرقية، وربما لا ينقصها سوى “شهادة حياة” و”بطاقة هوية” تتيح لها التنقل بأريحية وحرية، دون أي خوف أو هاجس.

الظاهرة “الكلابية”، التي تتعايش بين ظهرانينا في صمت منقطع النظير، لم تعد حكرا على الأحياء الشعبية أو الهامشية؛ بل باتت مشاهدها المقلقة، تحضر بقوة حتى في الأحياء المتوسطة والراقية وفي الشوارع الرئيسية والمدارات الكبرى، وعند مداخل المدن وفي الأسواق الشعبية وأمام المدارس والمساجد والمحلات التجارية. كما لم تعد هذه الظاهرة طابعا مميزا للمدن المتوسطة والصغيرة؛ بل باتت تحضر صورها حتى في المدن الكبرى التي يفترض أن تكون محصنة من طقوس العشوائية والعبث و”الفوضى الخلاقة”.

الظاهرة المقلقة قد يربطها البعض بالأزمة العامة للمدينة المغربية التي تتخبط في مشاكل بالجملة يتقاطع فيها الاقتصادي بالاجتماعي والتجهيزي بالتدبيري. وقد يفسرها البعض الآخر بامتداد الممارسات الريفية في الأوساط الحضرية في إطار ما يعرف بظاهرة “ترييف المدن”. وقد يرى فيها البعض الثالث مرآة عاكسة لما تعيشه المدن المغربية من “فوضى تدبيرية” نتيجة غياب أو تغييب “سلاح ربط المسؤولية بالمحاسبة”. وقد يعتبرها البعض الرابع فشلا ذريعا لسياسة إعداد التراب الوطني في بعديها “الوطني” و”الجهوي”… ومهما استرسلنا في رصد العوامل المتحكمة في هذا “الكابوس الكلابي” المزعج، لابد أن نكون متفقين على أن “الكلاب الضالة” التي تتسكع في الشوارع والأحياء والطرقات والمدارات ما هي إلا جزء لا يتجزأ من منظومة مجتمعية أضحت أكثر تطبيعا مع “اللانظام” أو “الفوضى”.

فوضى تحضر تفاصيلها ليس فقط في الكلاب الضالة، بل في القطط والحمير والبغال والأبقار والأغنام التي باتت تتقاسم معنا الشوارع والأحياء والطرقات والفضاءات العامة، وفي اتساع دائرة التسول الحضري وانتشار الباعة المتجولين وأصحاب المأكولات الشعبية، كما تحضر في تدهور البنيات التحتية من طرق ومدارات وأرصفة وإنارة، ومحدودية الفضاءات الخضراء وقلة ملاعب القرب، والسكن العشوائي وأحياء الصفيح… وكلها صور من ضمن أخرى فرضت علينا العيش المشترك داخل مدن بدون حياة، يتقاطع فيها “التمدين” بـ”الترييف”، فاقدة لما نتطلع إليه كمواطنين من جودة وتنمية ورخاء وازدهار.

ما تعيشه المدن المغربية من أزمات مكشوفة للعيان بقدر ما يسائل كل الجهات المتداخلة في سياسة المدينة والتنمية المحلية والجهوية بقدر ما نرى أن “السيل بلغ الزبى”، ونحن نتابع مأساة طفلة بريئة تقع ليس فقط ضحية كلاب ضالة أوقفت عنوة عقارب حياتها؛ بل هي ابتداء وانتهاء ضحية سياسات عمومية وجهوية فاشلة، وضحية مسؤولين مهملين ومقصرين يضعف لدى الكثير منهم منسوب المسؤولية والضمير المهني والالتزام والمواطنة الحقة، وضحية مجتمع يكرس ثقافة “اللانظام” بأنانيته وعبثه وتهوره وانعدام مسؤوليته، وضحية واقع سياسي منتج للعبث… وقبل هذا وذاك ضحية دولة، لا بد لها أن تشهر سيف “ربط المسؤولية بالمحاسبة” في وجه العابثين والفاسدين والمتهورين من مدبري الشأن العام والجهوي والمحلي، ممن يحرمون الوطن من فرص النهوض والرخاء والازدهار، بممارساتهم “اللامواطنة”.

رحمة بالمواطنين ورأفة بالأطفال الصغار، وإنقاذا لمدننا التي باتت تتشارك صور البؤس والإقصاء والتخلف والفوضى، وحرصا على صورة البلد وإشعاعه الدولي كوجهة سياحية عالمية، نوجه رسالة مفتوحة عبر هذا المقال، ندعو من خلالها كل المسؤولين المتداخلين في سياسة المدينة وما يرتبط بها من تنمية جهوية ومحلية إلى أن يتحملوا مسؤولياتهم كاملة أمام الله والوطن والملك، ويتحلوا بالضمير المهني والمواطنة الحقة، ويتحركوا في اتجاه ليس فقط تخليص المواطنين والأجانب من عصابات الكلاب الضالة التي باتت طابعا مميزا للمدينة المغربية؛ بل والمضي قدما في اتجاه كسب رهانات مدن “نظيفة” و”خضراء” و”أنيقة” و”جذابة”، تقطع قطعا لا رجعة فيه، مع كافة ممارسات العبث والفوضى ومشاهد التخلف والانحطاط.

من الخجل ونحن في القرن الحادي والعشرين أن نهدر الزمن ونستنزف القدرة لكتابة مقال حول ظاهرة أو ظواهر اجتماعية ومجالية وبيئية لا يمكن تصورها إلا في البلدان الفقيرة أو المتخلفة.. ومن العيب أن تعيش مدننا على وقع “العبث” و”التهور” و”اللانظام” ونحن في زمن نموذج تنموي جديد كانت غايته الكبرى تجاوز مشكلات وأعطاب الفعل التنموي الماضي وتحقيق الإقـلاع التنموي الشامل.. ومن غير المقبول أن نراهن على الانتخابات والديمقراطية التشاركية والتنمية المجالية، والنتيجة “مدن بئيسة” تعيش على وقع “اللانظام”، و”مسؤولون” – مع وجود الاستثناء – “خارج التغطية”، في ظل مناخ سياسي وتدبيري، تكاد تختفي في سمائه شمس “ربط المسؤولية بالمحاسبة”.

وقبل الختم، نرى أن “ظاهرة الكلاب الضالة”، التي باتت جزءا لا يتجزأ من المجالات الحضرية المغربية، ما هي إلا مرآة عاكسة لما بات يعتري واقع الممارسة السياسة والتدبيرية في أبعادها الوطنية والجهوية والمحلية من مظاهر العبث والفوضى والفساد، ومن صور الأنانية وانعدام المسؤولية. وهذا الواقع المأسوف عليه بقدر ما يعيق الفعل التنموي ويحرم البلد من فرص اللحاق بمصاف البلدان المتقدمة بقدر ما يفرض التحرك في اتجاه التصدي لكل العابثين والفاسدين والأنانيين، حرصا على توفير بيئة آمنة قادرة على كسب رهانات النموذج التنموي الجديد، وسعيا وراء تمتين “الجبهة الداخلية” التي بدونها يصعب مواجهة كل مناورات ودسائس أعداء وخصوم الوحدة الترابية، ولا سبيل لتمتين وتقوية هذه الجبهة إلا عبر تطبيق أمثل لمبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة” وتفعيل “آليات عدم الإفلات من العقاب” و”حماية المال العام” و”إرساء دولة الحق والقانون والعدالة الاجتماعية”.

ونختم بالقول بما أن “الكلاب الضالة” هي التي تحكمت في كتابة هذا المقال، نأمل من باب المواطنة أن يتم إيجاد الحلول الممكنة لهذه الظاهرة المزعجة، حفاظا على أرواح المواطنين وسلامتهم وطمأنينتهم، وإلا تمكين هذه الكلاب من “بطاقة هوية” و”كناش حالة مدنية”، ومن “الحق في سكن يحفظ الكرامة”، وربما من “الحق في التغطية الصحية” و”التقاعد المريح”…، ومهما قيل أو ما يمكن أن يقال نترك مساحة أمل نتطلع من خلالها إلى العيش بين أحضان مدن “أنيقة” و”جذابة”، تليق بمغرب اليوم وما يتطلع إليه من بناء ونماء ومن إشعاع إقليمي ودولي… وحتى لا نتهم بالعدمية أو بإنتاج خطاب التيئيس نقر بأن هناك مدنا بلغت مستويات حميدة من الجذب والرقي والإشعاع؛ لكن بالمقابل هناك مدن كثيرة ما زالت تعيش على وقع “العبث” و”اللانظام”، كما هو الحال بالنسبة لمدينة المحمدية التي فقدت الزهور وربحت كمثيلاتها الكلاب الضالة والحمير والبغال والبؤس والهشاشة والإقصاء…


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...