لماذا فشل المغرب في استقطاب كفاءاته المقيمة بالخارج؟

رصد المغرب

في يوم الخامس من شهر أكتوبر من هذا العام، ‏حصل لي شرف المساهمة عن بعد في الندوة الثالثة من جلسات الاستماع والتشاور مع الكفاءات المغربية المقيمة بالخارج والتي كانت مخصصة لجهة آسيا-أوقيانوسيا، إفريقيا والشرق الأوسط، وذلك في أفق إعداد المناظرة الخاصة بمغاربة العالم، وبالتحديد ذوي الكفاءات العلمية العالية. وبالفعل، أقيمت هذه المناظرة بالعاصمة الرباط في التاسع والعشرين من الشهر نفسه، وحضرتها شخصيا واستمتعت بها عن بعد عن طريق منصة زوم. قد تفيد الإشارة إلى أن هذه الندوات والمناظرات هدفها الرئيس هو محاولة جذب الكفاءات العلمية المغربية للمساهمة في تطوير التعليم العالي والبحث العلمي في المغرب من جهة، واستقطاب المستثمرين المغاربة وأصحاب الابتكارات ذات القيمة المضيفة للاستثمار في المغرب من جهة ثانية. بما أنني لا أفقه كثيرا في ميدان الاستثمار، فإنني سأركز على التعليم العالي والبحث العلمي بحكم خبرتي التي راكمتها لما يقارب 22 عاما كباحث وأكاديمي.

‏‏بالنظر إلى خبرتي العملية في بلجيكا وهولندا وإنجلترا وحاليا في قطر، وحضوري للعديد من المؤتمرات العلمية الدولية التي نظمت في العديد من البلدان، أتيحت لي الفرصة لمقابلة ‏والتعرف على عشرات المغاربة المؤهلين تأهيلا عاليا في مختلف المجالات العلمية والأكاديمية والثقافية. لذلك، لم يكن من قبيل الصدفة ولم يفاجئني المستوى العالي الذي بلغه المتدخلون والمتدخلات من مختلف البلدان، في تلك الندوات ‏والمناظرات. كان لافتا للنظر أن معظم المتدخلين والمتدخلات حصلوا على درجة البكالوريوس (الإجازة) في المغرب ثم غادروا البلد بعدها، للحصول على درجة الماجستير أو الدكتوراه أو التخصص في مجالي الطب والهندسة… إلخ، غير أنهم وللأسف لم يعودوا أبدًا للمساهمة في نهضة البلد الذي يكنون له حبا جما، رغم ان بعضهم حاول عبثا القيام بذلك. نستنتج من هذا كله أن المغرب وعلى مدى سنوات عديدة أنفق ملايين الدراهم على تمدرس هاته الكفاءات بدون أي عائد على الاستثمار، اللهم بعض التحويلات المالية التي قام بها هؤلاء الأشخاص لدعم أسرهم، أو شراء عقار، أو أصول أو ممتلكات أخرى، وما إلى ذلك من الاستثمارات الصغيرة المادية بالخصوص. في المقابل، حصلت البلدان المضيفة على المئات، إن لم يكن الآلاف، من الشباب المتعلم والمستعد للعمل في قطاعات البحث والتطوير الأكاديمي والشركات العاملة في مختلف المجالات المتطورة. هذه الظاهرة تأخذنا مرة أخرى إلى موضوع تأثير هجرة الأدمغة من دول الجنوب الى دول الشمال على العديد من البلدان المتخلفة أو السائرة في طور النمو وهي قضية ناقشها بشكل مستفيض كثير من المفكرين والمهتمين والمؤسسات الدولية، غير أن هذا الموضوع خارج نطاق هذا المقال. ولكن ما أود أن أناقشه هنا هو الأسباب التي أعاقت وما تزال تعيق عودة الباحثين الأكاديميين إلى المغرب من أجل النهوض بالبحث العلمي ورفع مستوى التعليم العالي، وجملة من الحلول المقترحة من أجل جذب الكفاءات المغربية إلى وطنهم والمساهمة في النهضة التي تشهدها البلاد.

بحكم احتكاكي بالعديد من الكفاءات المغربية بالخارج، أرى أن هناك عوامل ذاتية وموضوعية وراء إحجام الكثير من مغاربة العالم المؤهلين عن العودة إلى الوطن الأم. قد يكون عامل الاستقرار الأسري فوق كل عامل ذاتي آخر. في الواقع، بمجرد أن يُكوِّن الشخص أسرة ويبلغ الأطفال سن التمدرس تصبح فكرة العودة إلى المغرب أكثر صعوبة وتعقيدا، حيث إن مستقبل الأطفال يصبح على رأس أولويات الآباء والأمهات. ومع تقدم الأطفال في السن، تزداد فكرة العودة إلى المغرب تعقيدا لأن الأطفال يبدؤون في التشبع بقيم البلد المضيف ويُكَوِّنون علاقات صداقة مع الأقران والزملاء. وما يزيد الطين بلة هو المستوى المتدني للمدرسة المغربية، العمومية والخاصة على حد سواء، الشيء الذي يدفع أي شخص يفكر في مستقبل أبنائه إلى استبعاد فكرة العودة إلى المغرب بشكل نهائي. وقد قرأنا أخيرا ما جاء على لسان وزير التربية السيد شكيب بنموسى، حيث أكد السيد الوزير أن المدرسة المغربية لا تحظى بثقة المواطنين واعترف بأن المدرسة المغربية العمومية لا تضمن اكتساب المهارات الأساسية، وأن 87 في المائة من تلاميذ السنة الخامسة ابتدائي مثلا لا يجيدون إجراء عملية حسابية بسيطة مثل قسمة بعدد واحد. وإذا كان هذا حال المواطنين المغاربة داخل الوطن، فما بالك بمغاربة العالم الذين تعودوا على جودة التعليم في البلدان التي يقيمون بها. التعليم الخاص ليس أحسن حالا من نظيره العمومي. فزيادة على أسعاره المرتفعة التي أصبحت تثقل كاهل الأسر المغربية، هناك مشاكل تتعلق بالجانب البيداغوجي، حيث إن المدرسين في المدارس الخاصة، رغم أن أغلبهم لديهم شهادات جامعية، إلا أن قلة منهم فقط يتوفرون على تكوين يؤهلهم لحقل التدريس، مع ما ينتج عن ذلك من خلل في العملية التعليمية بحكم أن فاقد الشيء لا يعطيه. وهنا أتذكر أنني كنت يوما مستقلا سيارة أجرة وسمعت مواطنة مغربية اتصلت بإذاعة الراديو لتشتكي من مستوى المدرسة الخاصة التي يدرس فيها أبناؤها، فقد ذكرت هذه المواطنة بصوت حزين أنها، زيادة على دفع رسوم المدرسة، اضطرت إلى اللجوء لدروس إضافية للدعم والتقوية لأن مستوى الأبناء ضعيف. هذه الحقيقة أكدها لي صديق كان يشتغل مديرا إقليميا للتعليم في المغرب وهو نفسه اضطر للجوء لساعات إضافية لابنته في مادة الرياضيات، علما أنه كان يدفع مبلغ 500 درهم للساعة الواحدة. ولا غرابة في هذه الحقيقة المرة لأن التعليم الخاص أصبح عملًا تجاريا محضا، ومعظم مالكي المدارس الخاصة لا علاقة لهم بالتعليم لا من قريب ولا من بعيد، وكل ما يهمهم هو الربح السريع. وللإنصاف، فان هناك بعض المدارس الخاصة القليلة التي يُعَدُّ ملاكها ممن ينتمون إلى ميدان التعليم، وتوفر هذه المدارس تعليما جيدا نسبيا، ولكن تبقى استثناءات، وأسعارها مرتفعة نظرا للإقبال الكبير عليها. في ظل هذه الظروف، يبقى الملاذ لمغاربة الخارج الذين يفكرون في العودة إلى المغرب، خاصة القادمين من الدول الفرنكوفونية، هو التعليم الخاص المعروف بمستواه الجيد والتابع للبعثة الفرنسية، نظرا لإمكانياته وجودة أساتذته ومقرراته التعليمية. للأسف، تبقى هذه المدارس حكرا على طبقة معينة من المواطنين نظرا لغلاء رسومها، خصوصا بالنسبة لمن لديه عدة أطفال. كما أن هذه المدارس لا تتواجد في كل المدن وعدد المقاعد فيها محدود. يظل الوضع أكثر تعقيدًا بالنسبة للمغاربة الذين يعيشون في البلدان غير الناطقة بالعربية أو الفرنسية. ومع أننا بدأنا أخيرا نرى مدارس تقدم برنامجا تعليميا بريطانيا أو أمريكيا داخل المغرب، مثل أكاديمية لندن أو المدرسة الأمريكية، يبقى الولوج إليها حكرا على أبناء البعثات الدبلوماسية أو أبناء المغاربة من أسر ميسورة لأن رسوم هذه المدارس تصل إلى 8000 درهم للشهر الواحد، أو ربما أكثر في المستوى الثانوي. مع الوضع القائم، ما الذي يمكن أن تقوم به الدولة حيال هذا الوضع لجلب واستقطاب الكفاءات المغربية بالخارج والتي سيتحتم عليها التعاطي مع مشكلة تمدرس الأبناء؟ الحقيقة المرة أنه لا توجد حلول كثيرة. أحد الحلول الممكنة يَكمُن في التزام الدولة المغربية بالتكفل برسوم المدارس أو جزء منها أو أخذها في عين الاعتبار عند تحديد الراتب الشهري، والتدخل لدى مدارس البعثة الفرنسية لضمان تخصيص مقاعد فيها لأبناء مغاربة العالم الذين قرروا العودة إلى الوطن، وخاصة للقادمين من الدول الفرنكوفونية. حل آخر يَكمُن في استهداف العلماء المغاربة الذين ليس لديهم أبناء في سن التمدرس القبل جامعي، أو بالعكس الذين لم يبلغ أبناؤهم سن التمدرس بعد، بحيث يسهل عليهم الاندماج في المنظومة التعليمية المغربية.

عامل ذاتي آخر لا يقل أهمية عن الأول هو الضمان الاجتماعي. جل الكفاءات المغربية بالخارج تعيش في بلدان توفر ضمانا اجتماعيا متكاملا، يجعل الإنسان يعيش مطمئن البال نسبيا. على سبيل المثال، استحقاقات البطالة (allocations de chômage) في حالة فقدان الشغل، التعويض عن الإعاقة البدنية في حالة المرض المزمن أو التعرض لحادثة (allocations d’invalidité)، السكن الاجتماعي (logement social) لأصحاب الدخل المحدود، التعويضات عن الأبناء (allocations familiales)، هي بعض الامتيازات التي يضمنها الضمان الاجتماعي لكل شخص يعيش في تلك البلدان بطريقة شرعية. وقد رأينا خلال أزمة كورونا كيف أن آلاف المغاربة من غير الموظفين في القطاع العمومي أصبحوا بين عشية وضحاها بدون راتب لسد حاجيات أسرهم وربما أصبحوا يعيشون تحت خط الفقر. ليس من السهل لأي من كفاءات المغرب بالخارج أن تترك هذه الامتيازات وتعود إلى المغرب إن لم تكن هناك ضمانات جدية من طرف الدولة المغربية لحماية مستقبلهم ومستقبل أبنائهم.

عامل ذاتي ثالث ذو أهمية قصوى ويشكل هاجسا لمغاربة الخارج الذي ينوون الاستقرار في المغرب هو الضمان الصحي الذي يعتبر تحصيل حاصل في كل الدول الأوروبية، ولا يمكن العيش بدونه لأن رسوم التطبيب مرتفعة جدا. في هذا الصدد، لن أتطرق هنا لجودة المستشفيات والعناية بالمرضى كما هو الحال في الدول الغربية لأن الكل يعرف ذلك. ولكن وفي المقابل نعرف ونتأسف جميعا على الحالة المزرية لقطاع الصحة في المغرب، حيث أصبح الولوج إلى أغلب المستشفيات العمومية يقارن بالدخول إلى الجحيم. ومن المؤسف أن نرى بعض الأطباء والممرضين في القطاع العمومي يتركون مهامهم التي يتقاضون عليها أجرا في المستشفيات العمومية للعمل في المصحات الخاصة بدون حسيب ولا رقيب، مع ما يترتب عن ذلك من نقص حاد في جودة العناية الصحية المتوفرة بالنسبة للمواطنين البسطاء الذين ليست لديهم تغطية صحية تمكنهم من ولوج المصحات الخاصة ولا بديل آخر يوفر لهم الرعاية الصحية الأساسية. وفي هذا الإطار، كثيرا ما سمعنا عن تجارب كارثية حصلت لبعض المهاجرين المغاربة الذين اضطروا لولوج المستشفيات في المغرب، سواء أكانت عامة أو خاصة. عامل الصحة هذا يضطر الكثير من مغاربة العالم، بل وحتى المتقاعدين منهم، بغض النظر عن مستواهم التعليمي، لتفضيل قضاء آخر عمرهم في بلدان الإقامة خشية المرض الذي قد يضطرهم لولوج المستشفيات في المغرب. نأمل أن يأتي اليوم الذي سنرى فيه المستشفيات العمومية المغربية تضاهي نظيراتها في الدول الغربية وأن يكون فتح قطاع الصحة الخاص أمام الاستثمارات الأجنبية سبيلا لتحسين مستوى المنافسة وجودة التطبيب. بعض الجامعات الخاصة أصبحت توفر ضمانا صحيا لموظفيها يغطي حتى 90٪ من مصاريف التطبيب في جميع العيادات في المغرب، وأعتقد أن هذا حلا مناسبا نسبيا لتبديد مخاوف مغاربة العالم الذين ينوون العودة إلى المغرب.

ثمة عامل ذاتي آخر يمكن في بعض الحالات أن يلعب دورًا في تعقيد عملية العودة إلى المغرب، وهو أن العديد من المغاربة المؤهلين مرتبطون إما بزوج أو زوجة مغربية من الجيل الثاني أو الثالث الذين ولدوا وترعرعوا في بلاد المهجر، أو حتى بشخص من أهل البلد المضيف، والذين يواجهون تحديات جمة للتأقلم مع نمط العيش في المغرب. وهناك عائلات كثيرة اضطرت إلى مغادرة المغرب بعد أن قررت الاستقرار فيه لأن الزوج(ة) والأطفال واجهوا صعوبات كثيرة للاندماج داخل المجتمع المغربي.

هذه العوامل كلها، وربما هناك عوامل ذاتية أخرى، تجعل الكفاءات المغربية بالخارج تفكر عشر مرات قبل اتخاذ قرار العودة إلى المغرب.

إلى جانب العوامل الذاتية المذكورة أعلاه، هناك عوامل موضوعية أكثر تعقيدًا تدفع الكفاءات المغربية إلى العزوف عن العودة إلى وطنهم بعد استكمال دراستهم في الخارج. بالنظر إلى أنني باحث أكاديمي، سأركز فقط على العوامل الموضوعية التي أراها ويراها كثير من الزملاء الأكاديميين في المهجر تحول دون عودة العلماء والباحثين والأكاديميين المغاربة إلى المغرب. لعل أهم هذه العوامل الموضوعية التي فوتت على المغرب فرصا كثيرة لجلب الكفاءات المغربية التي تعمل في مجال البحث العلمي من مختلف دول العالم ذلك القانون، الذي تنطبق عليه تسمية العجيب والغريب، الذي يفرض على كل من أراد الالتحاق بالجامعة المغربية أن يوظف كأستاذ جامعي مساعد بغض النظر عن مركزه العلمي ‏في الجامعة أو المؤسسة البحثية التي سيأتي منها. ‏لا أدري من أقر ‏هذا القانون، ولكنه ألحق ضررا كثيرا بالجامعات والمؤسسات البحثية المغربية. ‏كيف يعقل أن نطلب من أستاذ في جامعة ‏ ‏مرموقة درَّس وله العشرات من الأبحاث العلمية المنشورة في مجلات علمية ذات صيت عالمي ‏أن يلتحق بجامعة مغربية كأستاذ مساعد. هنا أريد أن أفتح قوسا ‏لأوضح للقراء أن هناك ثلاثة مستويات للأستاذ الجامعي. ‏المستوى الأول يخص الأستاذ الجامعي المساعد. يتطلب هذا المستوى الحصول على درجة الدكتوراه وعادةً بعض الخبرة كباحث ما بعد الدكتوراه. المستوى الثاني يتعلق بمستوى الأستاذ الجامعي المؤهل. وللترقية من المستوى الأول إلى المستوى الثاني، يجب على الأستاذ المساعد أن يثبت قدرته على التدريس وإجراء البحوث ونشر الأوراق البحثية والإشراف على الطلاب. أخيرًا، المستوى الثالث هو مستوى أستاذ التعليم العالي، وهو أعلى مستوى علمي في الجامعة المغربية. لكي تتم ترقية أستاذ مؤهل إلى أستاذ التعليم العالي يجب أن يكون معترفًا به محليًا ودوليًا في مجاله البحثي، وسجل من الأبحاث المنشورة في مجلات علمية عالية التأثير، والإشراف على طلبة الدكتوراه والماجستير، وجلب التمويل الخارجي، والمساهمة في اللجان المختلفة، والمشاركة في تطوير المناهج التربوية، وتولي بعض الأدوار الإدارية، إلخ… كما قلت آنفا، كان لهذا القانون تأثير سلبي للغاية على الجامعات المغربية لأن أغلب الأطر العلمية المغربية بالخارج يرفضونه رفضا باتا ويعتبرونه إهانة لهم. وقد سرني أن أسمع من وزير التعليم العالي والبحث العلمي خلال مناظرة التاسع والعشرين من أكتوبر الماضي أن هذا القانون قد ألغي أخيرا، وأن المركز الذي سيتم تقديمه لكل من يرغب في الالتحاق بجامعة مغربية أو معهد بحثي سيعتمد على سنوات الخبرة العلمية والأكاديمية ومركزه الحالي.

عامل موضوعي آخر، لا يقل أهمية عن الأول، هو قانون الوظيفة العمومية المتعلق بالسن الأقصى للتوظيف المحدد في 45 سنة. لا أعرف ولا أفهم إطلاقا المنطق المعتمد لِسَنِّ هذا القانون، بل لا أراه ملائما للتوظيف في ميدان البحث العلمي. في الواقع، أغلب الباحثين يصبحون ناضجين ما بين الأربعين والخمسين سنة، بعد أن يكونوا قد راكموا سنوات من الخبرة كباحثين لمدة 15 أو 20 سنة أو أكثر. خبرة هؤلاء الباحثين لو استُثمرت ستوفر على الجامعات والمختبرات آلاف الساعات من العمل وملايين الدراهم لنقل ما يعرفونه من علم ومعارف ومهارات وتقنيات. دعوني أسرد لكم مثالا عشته شخصيا لأوضح هذه الفكرة. منذ بضع سنين كنت أشتغل في أحد المختبرات واضطررت إلى إجراء تجربة جديدة لم تكن لدي أي خبرة فيها. كان أمامنا خيار تطوير التجربة في المختبر، وهذا يتطلب شهورًا من العمل الجاد لتطوير التقنية وتحسينها، مع ما ينتج عن ذلك من مصاريف باهظة، او الذهاب الى مختبر آخر لديه خبرة في هذا المجال ومن ثم تعلمها. اخترنا الاستراتيجية الأخيرة وذهبت إلى مختبر أحد المتعاونين في نيويورك قضيت فيه ثلاثة أسابيع تعلمت خلالها التقنية بكل تفاصيلها ونقلتها إلى مختبرنا في جامعة وايل كورنيل في قطر. لم ننفق في كل ذلك أكثر من 70 ألف درهم تقريبا شاملة لكل شيء. عندما توظف إدارة ما شخصا لديه خبرة في ميدان من الميادين فإنها في الحقيقة تشتري الخبرة التي قضى الشخص سنين لكسبها وصقلها. وشخصيا أتساءل، ما الذي يضر الجامعة المغربية إن وظفت باحثا أو باحثة في عمر الخمسين أو أكثر ولديه أو لديها خبرة كبيرة في ميدان ما؟ الشركات الخاصة تتنافس بشراسة لجذب أصحاب الخبرة وتدفع لهم مبالغ ضخمة لأنها تعرف كيف تستفيد منهم. يحكي زميل لي، كان يشتغل أستاذا باحثا في جامعة هارفارد، أنه عندما انتقل للعمل في إحدى شركات الدواء في بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية تضاعف راتبه من اليوم الأول. وبعد بضعة سنين انتقل إلى شركة أخرى وتضاعف راتبه مرة أخرى. قصص مثل هذه القصة كثيرة وتبين أن الشركات تعي أن الخبرة في غاية الأهمية وتسعى دائما لجذب الباحثين المؤهلين من ذوي الخبرة لتستفيد منهم. على المنوال نفسه، فإن الجامعات في أمريكا لا تهتم بسن الإنسان بقدر ما تهتم بما يمكن للشخص أن يقدمه للجامعة. وأعتقد أن القانون في أمريكا يمنع على المشغل أن يسأل المتقدم لوظيفة معينة عن السن. كذلك لا يوجد سن للتقاعد في الجامعات الأمريكية ويمكن أن تجد أستاذا عمره ثمانين سنة ومازال يشتغل أستاذا أو باحثا. مما سبق، أرى شخصيا أن تحديد العمر الأقصى للتوظيف يجب أن يلغى وخاصة بالنسبة للمتقدمين للوظائف من ذوي الخبرات العالية، ويقع على عاتق الجامعات والمؤسسات البحثية أن تعرف كيف تستغل هذه الكنوز لتطوير مستوى البحث العلمي وتطوير البرامج التعليمية وتأطير الطلبة، وغير ذلك من المهام ذات الصلة بالمجالات العلمية والأكاديمية والبحثية.

العامل الموضوعي الآخر الذي يجعل المغاربة المؤهلين ينفرون من العودة إلى المغرب، والذي لا يقل أهمية عن العوامل السابقة، هو الوضع المؤسف للجامعة المغربية، لا على مستوى البحث والتطوير ولا على مستوى التدريس، إذ لا يختلف اثنان على أن البحث العلمي شبه غائب -إن لم يكن مغيبا- في الجامعات المغربية باستثناء بعض الحالات الفردية والاستثنائية، خاصة في الميادين العلمية التي لا تتطلب مختبرات وتمويلات مادية ضخمة مثل الرياضيات أو الفيزياء النظرية وما شابه ذلك. ويكفي المهتمين زيارة مواقع قواعد البيانات الرئيسية للأبحاث المنشورة مثل Web of Science أو Pubmed أو Scopus ليرى مدى هزالة الإنتاج العلمي في المغرب كما وكيفا. أسباب ضعف البحث العلمي في الجامعة المغربية متعددة ومتشابكة وترتبط بالعديد من العوامل، منها جودة العنصر البشري، توفر التمويل، الإرادة السياسية، إدارة البحوث، وغيرها. لا يتسع المجال هنا لمناقشة هذه العوامل وسأحاول أن أناقشها في مقال قادم. لكن أريد ان أشير إلى أن هذه العوامل كل لا يتجزأ ويجب أن تكون كلها متوفرة من أجل تطوير البحث العلمي.

في ما يتعلق بالتدريس في الجامعة المغربية، يتفق الجميع على أن مستوى المناهج الجامعية متخلف للغاية في كافة الشعب، وقد اكتشف ذلك العديد من الطلبة المغاربة -بمن فيهم عبد ربه- الذين غادروا إلى أوروبا للحصول على درجة الماجستير أو الدكتوراه. وهنا أود أن أنوه بالإرادة الفولاذية للطالب المغربي الذي رغم تكوينه الضعيف يبذل جهدا مضاعفا لتخطي العواقب الجمة ويصل إلى أعلى المراتب في ميادين مختلفة من العلوم التطبيقية والإنسانية. وهنا تحضرني طرفة حصلت لأحد الأصدقاء عندما التحق في بداية التسعينات بالجامعة الحرة لبروكسيل في بلجيكا لتحضير درجة الماجستير في الفيزياء. يقول هذا الصديق إنه في أول حصة دراسية من مادة من المواد طرح عليهم الأستاذ مسألة لحلها وطلب منهم أن يستعملوا برنامجا معلوماتيا يسمى MATLAB لحل المسألة. المضحك المبكي في القصة هو أن صديقنا لم يكن قد لامست يداه جهاز حاسوب في حياته فما بالك بكتابة برنامج معلوماتي لحل مسألة. ومع ذلك، فقد بذل مجهودا جبارا وتخطى كل العواقب وأصبح الآن أستاذا كبيرا في ميدان تخصصه. لا جدال في أن هناك الكثير من العمل الذي يجب القيام به لتحديث المناهج الجامعية في جميع الشعب وتكييفها مع الحقائق الحالية لعالم القرن الحادي والعشرين إذا أردنا النهوض بالجامعة المغربية، وبالتالي البلد كله، واللحاق بالعالم المتقدم. لست مؤهلا لمناقشة التغييرات التي يجب إدخالها على المناهج التعليمية المختلفة لأن لكل منها خصوصياتها وطرق خاصة لتدريسها. فمثلا يختلف التدريس في كلية الطب أو الهندسة، التي هي تكوينات مهنية، عن التدريس في كلية العلوم، حيث إن الهدف هو التكوين الأكاديمي للطالب. في ظل كل هذه الظروف، يصعب على الكفاءات المغربية بالخارج ترك الجامعات والمعاهد التي توفر كافة الإمكانيات المادية والمعنوية والانتقال إلى الجامعات والمعاهد البحثية المغربية التي تنعدم فيها أبسط متطلبات إجراء البحث العلمي.

من الواضح أن الوضع الراهن للجامعة المغربية ليس وليد اليوم، ولكنه نتاج لتراكم سلسلة من إخفاقات الحكومات المتتالية في معالجة أصل مشاكل التعليم العالي والبحث العلمي رغم بعض المحاولات المحتشمة والتي كانت في غالب الأحيان سطحية وتغلب عليها الارتجالية. لن يساعدنا كثيرًا إلقاء اللوم أو البحث عن المسؤولين عن فشل البحث العلمي وعدم الاهتمام بالتطوير في الجامعة المغربية، لكن واجبنا هو تحديد المشاكل وإيجاد أنجع الحلول لوضع الجامعة المغربية على سكة التقدم والمضي قدما نحو مستقبل زاهر ومشرق.

خلاصة، لا يختلف اثنان على أن هناك حاجة ملحة لإنقاذ الجامعة المغربية من الوضع المأساوي الذي وصلت إليه، لا على مستوى التدريس ولا على مستوى البحث العلمي والتطوير. جامعة متطورة تنتج خريجين مؤهلين قادرين على رفع التحدي والمساهمة في تقدم المجتمع اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا وفكريًا وفنيا ورياضيا… إلخ، الكفاءات المغربية بالخارج، بما لديها من خبرات عالمية في العديد من المجالات في العلوم التطبيقية والإنسانية، يمكن أن تكون رافعة لهذا التحدي إذا تمكنت الدولة المغربية من تذليل الصعوبات التي تعيق عودة هذه الكفاءات إلى وطنها الأم وتزويدها بالظروف المناسبة لتفريغ مهاراتها من أجل تقدم هذا البلد الذي نحبه حبا غير مشروط.


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...