مغالطات الترجمة إلى العامية

رصد المغرب

أصدرت إحدى دور النشر المصرية، مع مطلع يناير 2023، ترجمة رواية إرنست همينغواي “العجوز والبحر” التي نشرها الكاتب منذ سبعين عاما وترجمت إلى العربية من قبل عشرات المرات.

الجديد أن الترجمة هذه المرة بالعامية، تحديدا العامية القاهرية. ويأتي ذلك العمل في سياق محاولة ترجمة الأدب وأحيانا تأليفه بالعامية، من ذلك رواية ألبير كامو “الغريب” المترجمة إلى العامية، ومن قبل مسرحية شكسبير “عطيل” 1989، ومسرحيته “حلم ليلة صيف” 2016، بل و”رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري 2016، كما صدرت في التأليف بالعامية رواية مصطفى مشرفة ” قنطرة الذي كفر” مطلع الستينيات، وكتاب لويس عوض “مذكرات طالب بعثة” 1965، بل وحصلت رواية بالعامية اسمها “المولودة” على جائزة أدبية.

السؤال هنا: ما الهدف من اللجوء إلى العامية؟ وبعبارة أدق ما هي مبررات ذلك؟ يدعي البعض أنه يتوخى بالعامية مخاطبة شريحة عريضة ممن لا يقرؤون اللغة الفصيحة. هكذا بقدرة قادر يتضح أن لدينا قراء يسألون في المكتبات كتابا بالعامية لأنهم يحسنون فقط القراءة بالعامية! هذا مضحك وأيضا غير صحيح، لأن من يقرأ الحروف العربية (وهي حروف العامية) سيقرأ اللغة الفصيحة التي يسرتها وسائل الإعلام.

إذن أيكون الدافع شيئا آخر مثل الادعاء بأن “العامية” لغتنا القومية وينبغي التمسك بها؟ هنا نسأل: أي عامية تقصد؟ العامية القاهرية، أم الصعيدية، أو السواحلية، أو عامية بدو سيناء، أم عامية أهل النوبة، أي عامية من أولئك تقصد أنها لغتنا القومية؟! الحقيقة أن العامية كانت ومازالت لهجة، واللهجة ظاهرة ملازمة لكل لغات العالم، لأن اللهجة، أو الكلام اليومي، مختبر اللغة الفصيحة، مختبر تنبذ فيه الكلمات الصعبة، وتدخل فيه كلمات جديدة، ينحي أشكال التعبير القديمة، ويبدع جديدة… إلى آخره، وبعد أن تقوم العامية بذلك الفرز والتصحيح، تستوعب الفصيحة كل هذا وتواصل به البقاء، وتظل لغة قومية، فالعامية على حد قول فؤاد حداد “بنت الفصحى”، تأخذ منها وتعطيها.

ومن المفهوم بالطبع أن تتجه فنون مثل السينما والإذاعة وشعر العامية والمسرح إلى العامية، لأن تلك الفنون تخاطب قطاعا واسعا قد لا يحسن القراءة فيه عدد ضخم، لكن من السخف أن تتجه العامية إلى الكتاب المطبوع تأليفا وترجمة بينما لا يسأل عن الكتب أصلا سوى قارئ! اللغة كل لغة تقوم على معجم كلمات ومنظومة قواعد، وليس للعامية معجم كلمات بعيدا عن اللغة الفصيحة، وتسعون بالمئة من العامية كلمات فصيحة، ولا يتسع المجال هنا لضرب الأمثلة على ذلك. أيضا ليس للعامية منظومة قواعد رغم كل محاولات المستشرقين لوضع قواعد لها لأنها ببساطة لهجة وليست لغة، ولو كانت لغة لكان علينا القول بأن لدينا في مصر ست لغات على الأقل.

لكن المستهدف من وراء تلك المحاولات لتضخيم العامية هو أولا: ضرب اللغة الفصيحة الميسرة التي تجمع كل فئات وطبقات الوطن، مما يعني مباشرة تفتيت الوطن ذاته بهدم أقوى مرتكزاته أي وسيلة التفاهم بين الجميع. ثانيا: ضرب فكرة الثقافة العربية التي تقوم على اللغة المشتركة، وعلى أنني أقرأ هنا بدر شاكر السياب وأفهمه، وهم يقرؤون في سوريا نجيب محفوظ ويفهمونه، وفي المغرب يفهمون أعمال بهاء طاهر… إلى آخره.

وقد يتصور البعض أنه بتلك المحاولات واعتماد اللهجة يحل مشكلات اللغة الفصيحة (ولها مشاكلها الكثيرة)، لكن الحل الحقيقي يكمن في تطوير الفصحى وتقريبها للناس. أخيرا لقد كان ومازال تفتيت اللغة التي توحد الأمة هدفا للمستشرقين أنصار الاستعمار الانجليزي، وفي ذلك السياق وضع ويلهلم سبيتا كتابه “لهجات المصريين العامية” عام 1880، وتبعه وليم ويلكوكس أحد رجال الاستعمار البريطاني وكان مهندسا للري في مصر حين ترجم مقطوعات لشكسبير بالعامية في 1892، ومازال البعض يخوضون في ذلك عن وعي، والبعض الآخر عن جهل وخلط بين اللغات واللهجات.


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...