قصة المدينة التي أصبحت “الأكثر جاذبية وأمنا” في أفريقيا بعد حرب أهلية مروعة

تحولت العاصمة الرواندية كيغالي خلال السنوات الـ 25 الماضية، وخاصة آخر عشر سنوات، إلى المدينة الأكثر جاذبية وحفاوة في أفريقيا، وذلك لأسباب شتى، من بينها الدور الذي لعبه الرئيس بول كاغامي، وبفعل تبني قوانين وسياسات جديدة، وأيضا بفضل السكان الذين يعيشون في كيغالي بصورة أساسية.

وبرغم وجود الكثير من العوامل التي أدت إلى أن تنعم هذه المدينة ببنية تحتية قوية وبنمو مزدهر، فإن مسألة اعتياد السكان على التعاون والتآزر أو باختصار “خدمة المجتمع” – التي يُعبر عنها بمفردة “أومينغاندا” الكينية الرواندية – تبدو السبب الأكثر أهمية من سواه، كمبدأ حاكم ومُنظم للتعاملات في العاصمة الرواندية.

ففي الفترة ما بين الساعة الثامنة والحادية عشرة من يوم السبت الأخير في كل شهر، يتعين على كل أسرة رواندية أن تسهم بواحد على الأقل من أفرادها – يتراوح عمره ما بين 18 و65 عاما – لكي يقوم بأعمال التنظيف أو التصليح أو الصيانة خارج المنزل.

وتشكل خدمة المجتمع على هذه الشاكلة، جزءا من الثقافة والتراث في رواندا، وقد أصبحت أمرا يُشجع على القيام به بشكل رسمي منذ عام 1998، وسُن قانون بشأنها قبل عشر سنوات.

وبينما بات بالإمكان تغريم من يتخلف عن الوفاء بواجبات الخدمة المجتمعية هذه، بشكل متكرر دون أسباب وجيهة، فإن كل من تحدثت معهم حول هذا الموضوع، أبدوا تأييدهم لأن تسود هذه الممارسة في مختلف أنحاء البلاد.

من بين هؤلاء، فتاة تُدعى إيسبرانس إيغيوزو (27 عاما) قالت لي، ونحن جلوسٌ في مقهى يتبع سلسلة مقاهٍ توجد فروع لها في الولايات المتحدة وبريطانيا كذلك، “لا أعرف غير ذلك، فقد كنت طفلة حينما بدأت ممارسة هذا الأمر”.

وتدير إيسبرانس دار ضيافة وتقدم خدمات للسائحين والطلاب الزائرين. وقد حدثتني – الفتاة التي تعيش في حي قريب من مطار كيغالي – عن كيفية تطبيق هذه الممارسة المجتمعية في بلادها وأسباب نجاحها، قائلة “الكل الآن يعلم ما الذي يتعين فعله. في الحي الذي أعيش فيه، لدينا ما يمكن أن يُسمى خلايا تتألف كل منها من 10 منازل أو نحو ذلك. لكل من هذه الخلايا مجموعة محادثة على تطبيق واتس آب للبقاء على تواصل ولتنظيم الأنشطة”، وأيضا لتوزيع العمل، إذ تُسند لشخص ما مهمة الكنس، ويتولى آخر قطع الشجيرات على سبيل المثال.

وتضيف بالقول: “كيغالي نظيفة الآن على الدوام، لكن المرء يواصل التنظيف. ففكرة أومينغاندا تتعلق بالتواصل الاجتماعي بين الناس أيضا”، لا القيام بالخدمات المجتمعية وحدها، وهو الأمر الذي يخلف تأثيرا أعمق في المجتمع بالمناسبة.

وفي طريقي من المطار وإليه، لاحظت أن كيغالي نظيفة بالفعل بشكل ملحوظ. ومنذ سنوات، يُحظر فيها قانونا استخدام الأكياس البلاستيكية، إلى حد أن رسالة صوتية بُثت في الطائرة التي أقلتني إلى هناك، تطلب من الركاب تفقد أمتعتهم والتخلص من أي أكياس من هذا النوع، قبل مغادرة الطائرة.

ولعل من يرى رواندا اليوم لا يصدق أن 26 عاما فقط، مرت على تلك الأيام المئة التي شهدت فيها البلاد الحرب الأهلية الأكثر وحشية في القرن العشرين، حينما تواجهت مجموعتا الهوتو والتوتسي العرقيتان، ما أسفر عن مقتل نحو 800 ألف شخص.

ورغم أن القانون في رواندا يحظر ذكر هاتين المجموعتين العرقيتين ولو عَرَضا، نظرا لعمق الشقاق الذي شهدته هذه الأمة في فترة الحرب، فقد قالت لي إيسبرانس إن بوسعي كسائح الحديث بحرية وطرح الأسئلة أيضا حول هذا الموضوع.

أما هي فربما تتعرض لخطر الاعتقال، إذا سمعها أحد وهي تتحدث مع أيٍ من مواطنيها، وتشير إلى هذا الشخص أو ذاك، باعتباره من الهوتو أو التوتسي.

ومن هذا المنظور، تشكل الـ ” أومينغاندا” وسيلة أخرى تستهدف تعزيز الشعار الرسمي المرفوع في هذا البلد الأفريقي، ويقول إنه لا توجد تقسيمات أو جماعات بعد الآن، وأن كل من في رواندا هو ببساطة رواندي لا أكثر. وتفيد المؤشرات بأن هذا الأسلوب يؤتي أكله حتى الآن.

وهكذا فقد كانت كيغالي، التي أرتني إياها ديزري إيزير المرشدة السياحية المرافقة لي، ذات طابع ودي وحميم واضح بشدة، لا مدينة نظيفة وآمنة فحسب.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأمان السائد في العاصمة الرواندية، جعلها تُصنّف من جانب السلطات الأمريكية، على أنها في المستوى الأول من الناحية الأمنية مثلها مثل مدينة فانكوفر الكندية.

أما الود الذي يبديه السكان، فقد لمسته خلال تجوالي في حي نياميرامبو الصاخب ذي الغالبية المسلمة. ففي ذلك الحي، الذي يشتهر بمطاعمه وحاناته ومقاهيه ومحلات الأزياء الموجودة فيه والتي تصطبغ كلها بطابع أفريقي واضح، وجدت المارة يلوحون لي طوال الوقت تقريبا.

وخلال سيرنا في سوق كيميسيغارا الشعبي ذي الأربعة طوابق – الذي تُعرض فيه سلع متنوعة من أبرزها الحبوب المجففة والملابس المستعملة – شرحت لي إيزير رؤيتها عن الطريقة التي ترى أنه يتعين على السائحين أن يتعرفوا من خلالها، على مدينتها على النحو الأمثل. إذ يتوجب على السائح – بحسب هذه الرؤية – أن يتوجه في البداية إلى “النصب التذكاري للإبادة الجماعية، إذ أن ذلك سيعطيه فكرة عن طبيعة كيغالي، وكيف أصبحت على ما هي عليه الآن، وما الذي حدث فيها”.

بعد ذلك، تنصح إيزير، بأن يرتاد المرء في المساء أياً من حانات المدينة، لتناول الـ “بروشيت” وهو عبارة عن لحم ماعز – في الغالب – يُشوى على أسياخ. وترى أن القيام بذلك سيجعل السائح يدرك تفاصيل الصورة التي باتت عليها العاصمة الرواندية الآن: حياة يومية معتادة وطعام بسيط وأناس مسالمون، بلا صراعات ولا حتى إبادة جماعية.

وتقول هذه السيدة إنه لا يوجد في بلادها مطبخ تقليدي يحتوي على ألوان طعام متنوعة. وتشير إلى أن أكثر الأصناف التقليدية الشائعة على المائدة الرواندية، هي البطاطا الحلوة المسلوقة مع الفاصوليا، بجانب الـ “بروشيت”. وقد نصحتني بأن أرتاد ستا من الحانات والمقاهي في المدينة، وهو ما التزمت به حرفيا.

أحد هذه الأماكن، مطعم تديره سيدة تُدعى دودو، كانت تعمل سابقا في مجال التصميمات الداخلية، وعادت عام 1994 إلى رواندا، من مدينة تورنتو الكندية، وذلك للوقوف في وجه جرائم الإبادة الجماعية.

ويشكل هذا المطعم في الليل بقعة حافلة بالنشاط، إذ يرتاده الموظفون المحليون في سفارات الدول المختلفة في كيغالي، ويجلبون معهم زملاءهم الأجانب أيضا.

كما ضمت قائمة الأماكن المنصوح بزيارتها من جانب إيزير، فندقا يقع في قلب المدينة، وتوجد فيه حانة على سطحه. وقالت لي مرشدتي السياحية إن المشهد الذي يطل عليه هذا الفندق، يجعل المرء يستمتع كثيرا باختياره للالتقاء فيه بصديق أو حبيب. ووصفت الفندق بالقول: “إنه المكان الذي يصطحب إليه الرجال عادة فتياتهم للاعتذار لهن” عن هذا الخطأ أو ذاك.

كما نصحتني إيزير بزيارة مركز “إنيما” للفنون، خاصة خلال ما يُعرف بـ “الساعة السعيدة”، التي يقدم فيها المركز خدمات مخفضة لزواره مساء الخميس من كل أسبوع. وعادة ما يرتاده في ذلك التوقيت أسبوعيا ما يصل إلى 400 شخص.

وقد بات هذا المكان المؤلف من طابقين، أحد أهم معالم ما يُعرف بـ “مجتمع الميم” في كيغالي، وهو المجتمع الذي يضم مثليي الجنس والمتحولين جنسيا ومزدوجي التوجه الجنسي وكذلك من لم يحددوا بعد تفضيلاتهم في هذا الشأن.

وقال لي مؤسس المركز، إنوسينت إنكورانزيزا، إن المشهد الفني في العاصمة الرواندية في ازدهار، بعد أن فتحت ستة معارض جديدة أبوابها بعد النجاح الذي حققه مركزه. أما الأعمال الفنية لـ “إنكورانزيزا” نفسه، فتتألف في الوقت الحالي، من لوحات زيتية كبيرة الحجم، مرسومة على قطع من لحاء أشجار التين، خيطت إلى بعضها بعضا، ما جعلها تشبه الجلد البشري.

وسيتم قريبا عرض هذه اللوحات للمرة الأولى على الساحة الدولية في معرض بمدينة نيويورك، فضلا عن أنها تشكل جزءا من مجموعة المقتنيات الشخصية، لعدد من الشخصيات الشهيرة، من بينها لورين باول جوبز، أرملة ستيف جوبز مؤسس شركة آبل.

ويقول إنكورانزيزا: “من بين الأمور التي نريد إنجازها الترويج لرواندا عبر الفن”، مشيرا في هذا السياق إلى حملة للتسويق والترويج أطلقتها الحكومة منذ عام، تحت شعار “صُنِعَ في رواندا”. ويضيف بالقول: “عندما تفكر في رواندا، تفكر في الإبادة الجماعية وحيوانات الغوريلا، لكن ماذا عن الفن؟”.

للأزياء كذلك نصيب في كيغالي. أحد العاملين في هذا المجال، هو موسيس تُراهيروا صاحب متجر موشينز للملابس، والذي تمزج تصميمات الأزياء الرجالية والنسائية التي يبيعها، بين الطابع التقليدي الذي يحمل اللونين الأبيض والأسود، وأنواع أخرى منقوشة برسوم هندسية تختلط بتطريز من الألوان المختلفة.

ويقول تُراهيروا إنه على الرغم من تقديره للمصممين الأوروبيين مثل الفرنسي أوليفييه روستا، فإنه يستوحي غالبية تصميماته من الرواد المحليين في تصميم الأزياء – مثل دادي دا ماكسيمو، الذي يعيش الآن في إستونيا – وغيره من المصممين، الذين لا يزالون موجودين في كيغالي.

وفي سياق عرضه لعصي مشي مزخرفة مميزة ورائعة بحق، صُنِعَت على هيئة عصي سبق أن استُخْدِمت من جانب أفراد أسر ملكية حكمت رواندا في الماضي، قال لي الرجل: “نحن نركز على الفخامة”. وأوضح أنه يتم بيع هذه العصي إلى “المسؤولين الحكوميين ورؤساء مجالس الإدارات والعاملين في قطاع المصارف”. ورغم أن شركته أُسِسَت قبل أربعة أعوام فقط، فإن لديها منافذ بيع في أوروبا، ويتطلع أصحابها لاقتحام السوق الأمريكية كذلك.

اللافت أن كل من أشرت إليهم خلال السطور السابقة، كانوا في العشرينيات من عمرهم، باستثناء إنكورانزيزا، مؤسس مركز “إنيما” للفنون الذي يبلغ عمره 33 عاما، وهو ما يشير إلى وجود طابع غالب الآن في هذا البلد، مؤداه أن بعد 26 عاما من تلك الفاجعة الوطنية التي واجهته، ظهر فيه جيل أصغر سنا لا يتحمل العبء الأكبر من تَبِعات تلك المحنة.

ويتألف هذا الجيل من شبان تربوا وهم يعكفون – خلال يوم واحد شهريا – على تنظيف مناطقهم وإصلاح ما هو متضرر فيها والتواصل كذلك مع بعضهم بعضا، مما يعني أنهم يساعدون وطنهم على النهوض من جديد والاندماج مع العالم، وهو أمرٌ يبشر بكل خير لرواندا خلال الأعوام المقبلة.

يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Future


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...