الشعر والاقتصاد..

رصد المغرب

معلوم أن الشعر العربي هو ديوان العرب ومستودع تاريخهم وأمجادهم، ولأهمية الشعر في حياة العرب، ومكانته في قلوبهم كان ميلاد شاعر يمثِّل لحظة احتفالية فارقة في حياة القبيلة، باعتباره سيغدو رأسمالها الرمزي، والنبي الجمالي المبشِّر بآثارها وتقاليدها وبطولاتها والمُخلّد لأيامها شعريا، إن حاضرا أو مستقبلا بعد ذيوع اسمه، وانتشار صيته وصوته الشعري بين الأجيال المتعاقبة.

لكنَّ، هذه القداسة التي كانت للشعر والشعراء في فترة زاهية من تاريخ الشعر العربي -حين كان شرط الشعرية الحقّ يقتضي ازدواج المقاييس الجمالية العالية، بالمقصديات القيمية السامية-، سيتجرأ عليها جمهور من الشعراء -الكبار بيانا- الذين حاولوا طيَّ صفحة القداسة طيًّا وتدنيسها، حين عمدوا إلى تغييبِ وتغريبِ روح الشعر الجوانية، التي تمثلها قيم الشعر ورؤاه، والاكتفاء بتزيين جسد القصيدة بمساحيق أسلوبية برانية، وإجراء عمليات تجميلية بالأشعة البلاغية، والصور الشعرية، وتلاوين الإيقاعية الخليلية، أملا في تلطيف نظرة المتلقي إليها، وإخفاء التشوهات الخِلقية/ القصدية التي ولدت بها بعد ولادة قيصرية قسرية.

وإذا اتفقنا، على أن جل الشعريات العالمية، وكتب نقد الشعر من كتاب فن الشعر لأرسطو إلى راهن نقد شعرنا الحديث، تُقِرُّ بأن الشعر في ماهيته رؤية إبداعية ورسالة إنسانية سامية، أداتها اللغة المجازية وموضوعها الإنسان في مختلف أوضاعه وأبعاد رؤاه،-رؤيته لوجوده وواقعه وأناه وآخره- وموقفه الجمالي والجدلي منها، فالغالب أن الشعراء أنفسهم لا يتفقون في نظرتهم لماهية الشعر، بل منهم من لا يعترف بسمو رسالته، جاعلا للقصيدة قصودا أخرى ذات أبعاد نفعية، لا إنسانية.

ويأتي في طليعة هؤلاء الشعراء: اقتصاديو القصيدة، الذين حوّلوا القصيدة إلى سلعة خاضعة لمنطق البيع والشراء، في سوق اقتصاد تداول العملات الشعرية، ومجالس مقايضة الشعر بالعطايا الجزيلة، ونمثل لهم من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية، بالأعشى الذي سنَّ بِدعة تسليع القصيدة في الشعرية العربية القديمة، وجعل الشعر حرفة تكسّب بها من الملوك والسادة، وممن لا قدر له، وهذه المقصدية الاقتصادية التكسبية التي دفعت الأعشى إلى تسليع القصيدة نستشفها من خلال هذا التصريح الشعري الذي خص به ابنته في قصيدة (أتهجر غانية أم تلمّ):

“وَقَــد طُفـــتُ لِلمــالِ آفاقَـــــهُ

عُمــــانَ فَحِمـصَ فَأوريشَلِــــم

أَتَيـتُ النَجاشِيَّ في أَرضِــــــهِ

وَأَرضَ النَبيطِ وَأَرضَ العَجَــم

فَنَجـرانَ فَالسَــروَ مِن حِميَـــرٍ

فَــــأَيَّ مَـــرامٍ لَـــهُ لَــــم أَرُم

وَمِن بَعدِ ذاكَ إِلى حَضرَمَوتَ

فَــأَوفَيتُ هَمّي وَحينـــاً أَهُـــــم

أَلَــم تَرَيِ الحَضـــرَ إِذ أَهلُـــــهُ

بِنُـعمى وَهَــل خــــالِدٌ مَن نعِــم”

ومن فحول شعراء الجاهلية المتاجرين بالشعر أيضا النابغة الذبياني الذي مدح الملوك وقبل جوائزهم ونال منهم مالا عظيما حتى كان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة، وسئل أبو عمرو بن العلاء: لم خضع النابغة للنعمان، فقال رغب في عطائه وعصافيره”، والحطيئة الذي “كان جشعا سؤولا”، بدرجة جعلته يعترف بأن تسليع قصائده قد أذله كما يتجلى في الحوار الذي دار بينه وبين ابن عباس “ض” (فقال ابن عباس: يا أبا مُليكة -الحطيئة- من أشعر الناس؟ قال: أمن الماضين أم الباقين؟ قال من الماضين، قال الذي يقول -يعني زهير-:

ومن يجعل المعروف من دون عرضه *** يفره ومن لا يتق الشتم يُشتمِ

وما بدونه الذي يقول -النابغة-:

ولست بمستبق أخا لا تلمّهُ *** على شعث أيّ الرجال المهذّبُ

ولكن الضراعة أفسدته، كما أفسدت رجولا، يعني نفسه، والله يا بن عم رسول الله، لولا الطمع والجشع لكنتُ أشعر الماضين، فأما الباقون فلا تشكّ أنّي أشعرهم وأصردهم سهما إذا رميتُ).

كما تجدر الإشارة إلى أن تسليع القصيدة والمتاجرة بها ازدهر في العصر الأموي بخاصة، بسبب سياسة استمالة وتقريب الشعراء الموالين للحكم الأموي وملء جيوبهم بالأموال ومقايضة قصائدهم بالهدايا والعطايا الثمينة، والتضييق الاقتصادي على معارضيهم من الشعراء، ففي عهد الأمويين (كانت دمشق وأموالها مفزع الشعراء من أقصى البوادي إلى أقصى الحواضر، فهم يشدُّون إليها الرحال من الحجاز والعراق يستميحون خلفاءها بهذه

الطرائف من مدائحهم ويعودون من عندهم بجر حقائب قد ملؤوها بالعطايا الجزيلة).

ومن شعراء بني أمية الكبار الذي حركته الأطماع الاقتصادية جرير الذي استطاع عبد الملك ابن مروان، استمالته إليه، ونمثل لمديحه التكسبي الذي بقدر ما يظهر إطراء وثناء على الممدوح يضمر قصدية اقتصادية، تخرج القصيدة من دائرة جمالية القول الشعري إلى دائرة المتاجرة بالشعر:

قال جرير في عبد الملك بن مروان طمعا في النوال:

أغـثـني يا فـداك أبـي وأمـي *** بـسبـبِ منك، إنك ذو ارتياح

فـإني قــد رأيــت عـليَّ حـقًّـــا *** زيارتي الخليفة وامتداحـي

سأشكر إنْ رددت عليَّ ريشتي *** وانبتّ القوادم في جـناحــي

ألستم خير من ركب الـمـطـايا *** وأنـدى العالـين بطـونَ راح

كما كان شاعر بني أمية الأخطل مكلفا بتجويد شعره وتهذيبه وتنقيحه، وإعادة النظر فيه، خاصة في قصائده المروانية، التي حاز بها على مكانة خاصة عند عبد الملك بن مروان، وجعلته يحسن جائزته ويغدق عليه من العطايا أكثر من جرير، -ينظر الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ج: 8 ص: 294-.

بل إن هناك من الشعراء من قايضوا قصائدهم ببقع أرضية ككُثير عزة، الذي طمع في أرض لعبد الملك بن مروان تسمى (غُرب)، فأنشده قصيدة مدح ضمنها حاجته، وحين خلص قال له الحاكم عبد الملك بن مروان: “أتريد غُربا، قال نعم يا أمير المؤمنين، قال: اكتبوها له”.

ومن الشعراء الذين عانوا من التضييق الاقتصادي، في عهد بني أمية، المتوكل الكوفي، وتظهر فاقته، التي دفعته لتسليع شعره من خلال هذه الأبيات التي خاطب بها يزيد بن معاوية، يلتمس منه رفع عطائه: فَكَيـفَ يـَنامُ اللـيـلَ حُـرٌّ عَـطـاؤُهُ *** ثَـلاثٌ لِرأسِ الحَولِ أَو مِئَتانِ

تَناهَت قَلوصي بَعد إِسآديَ السُّرى *** إِلى مَلِكٍ جَزل العَطاءِ هِجانِ

تَرى الناسَ أَفواجا يَـنوبـونَ بابَهُ *** لِبِكرٍ مِن الحاجاتِ أَو لِعَوانِ

كما ارتحل ذو الرُّمة طلبا لمقايضة القصيدة بالعطايا والهبات، وفي هذا قال:

وما كان مالي من تراث ورثته *** ولا دية كــانت ولا كسب مأثــــمِ

ولكن عطاء الله من كل رحلــة *** إلى كل محجوب السرادق خضرمِ

وقد نشطت حركة تسليع القصيدة في العهد العباسي، ومن شعراء هذا العصر الفحول الذين دخلوا سوق تداول العملة الشعرية، وأراقوا ماء وجهوهم على أعتاب أصحاب المال والثروة، نجد شواهد:

– في شعر أبي نواس من قبيل قوله حين قصد الخصيب في مصر يطلب عطاءه:

تقول التي عن بيتها خفّ مركبي *** عزيز علينا أن نراك تسيـــر

أمـا دون مـصر للغـنى مـتطلَّب *** بلى إن أسباب الغنى لـكـثـــير

– في شعر أبي العتاهية، في مدح عمر بن العلاء:

إنّ المطايا تشتكيك لأنــــها *** قطعـــت إليك سباسبَّا ورمــالا

فإذا وردن بنا وردنا مخفّــة *** وإذا رجعــن رجعــن ثقــــــالا

– في شعر المتنبي الذي اختص بمدح أمراء بعينهم، وامتنع عن مدح من هم دونهم، إيمانا منه بقوة شاعريته وأثر قصيدته في نفس ممدوحه ومحيطه، وهذا ما نلمحه في قصته مع أبي اسحاق، التي ساقها ياقوت الحموي على لسان ابنه، والتي تبين القيمة المادية لقصيدة المتنبي في سوق تداول القصائد الشعرية وتبادلها بالعملات المادية، حيث قال: “حدثني والدي أبو إسحاق قال: راسلت أبا الطيب المتنبي- رحمه الله- في أن يمدحني بقصيدتين، وأعطيه خمسة آلاف درهم، وسطت بيني وبينه رجلا من وجوه التجار، فقال له: قل له: والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولا أوجب علي في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت، وإن أنا مدحتك، تنكر لك الوزير، يعني -أبا محمد المهلبي-، وتغير عليك، لأنني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال، فأنا أجيبك إلى ما التمست، وما أريد منك منالا…”.

ولا يخفى أن عددا من النقاد القدامى قد انتقدوا ظاهرة تسليع القصيدة كالجاظ في كتاب البخلاء، وابن رشيق القيرواني، في كتابه (العمدة في معرفة صناعة الشعر ونقده)، ضمن باب (التكسب بالشعر والأنفة منه) و(باب من رفعه الشعر ومن وضعه).

وعلى الإجمال، فإن سياسة تجريد الشعر من رسالته الإنسانية السامية وتسليع القصيدة سياسة اقتصادية قديمة سنّها كبار الشعراء القدامى الذين بقدر ما تركوا بصماتهم البيانية الخالدة في تاريخ الشعرية العربية، بقدر ما تنكروا لرسالة الشعر ودخلوا سوق بيع الجُملة الشعرية، لمن يدفع أكثر، ومقايضتها بالهبات والعطايا.


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...