فِعل القِراءة وأدواتُه

رصد المغرب

إن في حديثنا عن القراءة وعن الكتاب؛ تخليط وخبْط ليل واختلاف ومُفارقة، وهذان الأخيران يتولدان أو ينتجان من أن الواحد أو الجماعة؛ يتكلم ويتقول مما يجعل شخصه ومورد رزقه في حصن منيع، وفي جميع هذا؛ هذا الذي يُصاغ فيقال له: (صراع الأجيال)، والتحمس للجديد ونبذ القديم والاستهزاء به واحتقاره، ويُعدّ على أنه عمَّر بما يكفي من القرون، وقد خَرُف وسيموت، فتروج كلمة (القراءة)، وتروج معها كلمة (الكتاب)، وقد أخذ هذان الشيئان باهتمام شديد ممن تصله علاقة وطيدة بهما، وفيهما حُبّه لهما ورغبة، وشُغله وأجرته التي هي دائما مطلب استزادة، أو استثمار لرأس مال؛ يجد ويكد ليثرى بأرباحه، ولا ريب في أن من خبرهما؛ أي القراءة والكتاب؛ من هؤلاء الذين يشتغلون بهما؛ لهم وعي ومعرفة بتغيرات الزمن وتحولاته التي لا ترحم، وهنالك قوم تَعيّشوا قرونا -وقد سبق نشر لغتهم في البعض الكثير من بلدان العالم حروب قهر واستضعاف- من المنظوم من الشعر والمنثور من الخواطر والقصص والحكايات والروايات، والتفكير والتنظير والتقعيد في شتى مجالات العلوم الإنسانية والعلوم البحتة؛ قد أقروا أن هناك هزة أُحدثت في أركان هذا الميدان، وأنهم يتأقلمُون ويتكيّفون مع تطورات حدثت في تِقانة العصر؛ هؤلاء هم الفرنسيون، فينطقون في حسرة وفي أسف بهذه الجملة البسيطة، وما أكثر ما يرومون هذه في لُغتهم وتخاطبهم وتواصلهم: “Nous n’avons pas le choix”، أي ما ترجمته: “ليس لدينا خيار”، ولم أكن أعرف عن الفرنسيين؛ مُبدِعيهم وكتابهم ومفكريهم وعلمائهم وصحافييهم وناشريهم؛ خوفهم من الجديد والمستحدثات، والهلع ممن يهدد جماعة منهم، وتخصصات في مجال نشر الكُتب، وإنك لتأسف لأهل بلاد (الغال)، وبيننا من تتلمذ عليهم، وتخرج من جامعاتهم ومعاهدهم، وحصّل العلم في فصولها وفي أروِقتِها، وفي خزاناتها، ولما عاد من هجرة التعليم والتحصيل ظل وفيا ومُتعاطِفا، ونحن لا ننكر ممن لم تسنح له فرصة السفر إلى أوروبا؛ للدراسة والتلقي والنهل من علوم الحضارة الغربية؛ أنهم أضافوا وأغنوا. تتأمل في مآل نشاط هؤلاء في التأليف والنشر؛ عندما تحل ببلادهم آلة لا أستبعد أنها اسْتُغرِبت من طرفهم؛ كما استغرب الإنسان أشياء كثيرة عبر عصوره التاريخية، وظنوا أن بها جِنا يُمفصل عَتَلاتها لتتحرك؛ فتُحبِّر الورق وتُرقّم صفحاته، وتضم بعضه إلى بعض، وتُلملِمه بغلاف متين وصقيل، وتقص ما يزيد على الحد، فتلفظ تلك الآلة كتابا قد يتراوح عدد صفحاته ما بين أربعين وثمانمائة صفحة، وفي دقائق قليلة، وفي أبهى طبعة؛ تتصفحه وتقرأه، ولكن قبل هذا كنت قد ضغطت على زر عليه عناوين لكتب؛ خُزّن محتواها في ذاكرة الآلة الإلكترونية، ومن بين تلك الكتب ما يُمتّع ويُثقّف وهي تلك الكلاسيكيات في الأدب والفكر والعلم؛ طالبا ما اشتهت نفسك إلى الاطلاع عليه أو قراءة ما رغبت فيه، هذه الآلة لها اسم هو: (Espresso book machine)، وهي أشبه في خدمتها بآلة تحضير مشروب القهوة: (Espresso coffee)، صنعتها الشركة الأمريكية (Xerox)، وقد نظر إليها أولئك القوم بريبة، وقد جِيء بها إلى بلادهم، أو جُلبت ووضعت في مكان واحد، ولا في غيره من أمكنة الرّبوع؛ في مدينة (ليل؛ Lille)؛ في شمال فرنسا قريبا من حدود هذه مع بلجيكا.

فآلة (Espresso book machine) تُحضِّر لك كتابا تقرأه، وقد استيقظت في الصباح تنعم بضياء الشمس الشارقة، كما تحضر لك آلة (Espresso coffee) فنجانا ترتشف منه القهوة.

وسنربط هذا الكلام بما يلي حتى يُفهم ويُستوعب، فنقول إنه إذا حاولنا أن نُبيِّن أين التَّخليط وخَبط الليالي اللذين أُسلف ذكرُهما، واللذين أحاطا بالقراءة والكتاب كموضوع للنقاش والجدال، وكمسألة تتطلب الافتراض والتحليل والتعليل، وإن شئت البحث عن وسائل وإجراءات وحلول لمشكلاتها، فلا ضير ولا حرج في أن نلوذ بمنهج التفسير اللغوي، ولعل هذا يُقرِّبنا من لبّ القراءة والكتاب، ويجرفنا إلى خِضمِّهِما فنخوض فيه.

فمصدر فعل القراءة هو (قَرَأَ)، فما معناه وما هو تعريفه، وكيف شرحته وفسرته معاجم اللغة العربية؟

في معجم (المعاني الجامع) “قرأ، يقرأ، قراءة، وقرآنا، فهو قارئ، والمفعول مقروء”، ونقول: “قرأ الكتاب ونحوه: تَتَبّع كلماته نظرا، نطق أو لا”، ونقول أيضا: “قرأ الغيب: تكهّن به يزعم أنه يُجيد قراءة الكف”، فباستطاعتي أن أقرأ بتتبع -نطقا أو بدونه- ما رُقِم أو خُط أو رُسم على الصخر أو الرِقّ أو الرُّقم الطينية أو (الكاغِد) أو ورق البردي أو ورق ألياف السليلوز، أو على الشاشة التي تُظهِر الحروف والكلمات بالمداد الإلكتروني (Electronic Ink)، فالقراءة شيء يختلف كلية عن إحدى هذه التي تسمى بلغة العصر بــ(الحوامل؛ Supports)، وهي وسائل تقنية يجمعها نوع واحد من بين عدة أنواع أخرى؛ يطلق عليها اسم (حوامل التواصل)، وهي إما مطبوعة على الورق أو غيره أو رقْمية، وعدة من تلك حوامل أخرى؛ فهناك حوامل التوثيق كأقراص التسجيل والتحميل “Clé USB، CD، DVD”، والأقراص الصُّلبة “Disques dures”، فالإنسان وعبر عصوره التاريخية كان ينقش ويَرقُم ويخط ويقرأ؛ نظرا أو نُطقا، وعميد الأدب طه حسين ومثله الأعلى أبو العلاء المعري، وغيرهما من الشخصيات والأعلام الذين كف بصرهم؛ لم يتلقيا علمهما قراءة بتتبع الكلمات على إحدى تلك الحوامل، وإنما سمعا بآذانهما لأنهما كانا كفيفين لا يُبصران، ولم يكن أحدهما -وهو طه حسين- قد سمع بخط (براي) وكُتُبه إلا في ما بعد؛ الذي ابتكرت طريقته وخصها للضريرين؛ بالقراءة لمسا لما برز من الحروف؛ من طرف المنسوبة إليه وهو الفرنسي (لويس بريل؛ 4 يناير 1809- 6 يناير 1852؛ LOUIS Braille).

فبهذا العرض والفهم فالجميع يقرأ؛ ينظر إلى الكلمة والتي تليها، وإلى الجملة والتي تتبعها، أو ينطق بها؛ سواء ما خُط أو طُبع بالمداد الصيني السائل أو بالمداد الإلكتروني، أو على الكف تكهُّنا بالغيب.

ألا نتحدث عن كل واحد من تلك الحوامل لنستزيد، ليَتبيّن لنا ألا علاقة بين الحامل للحروف، والكلمات وشغف القراءة؟

وقد قلنا الصخر، فالحفر عليه يُتيح أشكالا ورموزا، وقد قام الإنسان الأول في عصور ما قبل التاريخ بذلك بشظية من صخر الصَّوان (Slix)؛ سنّ شفرَتها وشحذ سِنّها، فصور ما كان يحيط به في بيئته من حيوانات، ونقش جماعة من القناصين يَعْدون في أثر طرائد الغزلان شاهرين حرابهم ونبالهم، وهذا زاد من معرفتنا بتلك البيئات الطبيعية القديمة، وبذلك النوع من المناخ الذي كان سائدا، فأدركنا أن الصحراء الكبرى لم تكن مجالا شاسعا قفرا؛ تُغطّيه كثبان رملية، وإنما كان عيونا وأنهارا وغابات مورقة أشجارُها وكثيفة أغصانُها، تعيش بها الحيوانات اللاحمة منها والعاشبة، والزواحف والطير والهوام، ولولا الاحترار العالمي الكبير الذي أعقب آخر فترة جليدية تسمى بـِ (وورم Wurm)، والتي اختفت حوالي عام ثمانية آلاف قبل الميلاد؛ لما تراجعت قلنسوة الثلج في القطب الشمالي، ولا ظلت أقوام الشمال ترتحل وراء حيوان (الرنّة)، ولما انسابت المياه من المرتفعات الجبلية والهضاب العالية؛ إلى ما انخفض من الأرض في مجار وأحواض؛ الحاجة إلى تدبيره تستدعي الأفكار، فظهرت حضارات وازدهرت على ضفاف نهري دجلة والفرات، ووادي النيل ونهر (السوب؛ Rio Sup)، الذي يخترق صحراء (البيرو) التي لا تزال بها آثار حضارة (الكارال)، بعد أن زحفت الصحاري، وهاجرت الجماعات البشرية واستقرت بالقرب من مياه الري؛ مستفيدة من حمولة المياه من غِرْين وطين، ومن هذا الأخير عُجِنت ألواح؛ لا تُشوَى بالنار إذا كان الغرض ظرفيا، وتُشوَى إذا كان الغرض الاحتفاظ بها لمدة زمنية طويلة، وقد ظلت مئات السنين مُكدّسة في رفوف إحدى مكتبات العصر القديم؛ نقب عليها علماء الآثار في مدينة (أوغاريت) الأثرية بسوريا، حُفِر فيها بإِسفين مسنون خطا يُقرأ، وحَفظت لأجيال الحضارات الأخرى قوانين (حمو رابي) وملحمة (جلجامش) وغيرها، وسُمي ذلك الخط بالخط المسماري، وتلك الألواح بالرُّقم.

والرِقّ مدبوغ من جلد الغزال، وليس أي غزال، فهو مسلوخ من صغار الغزلان؛ لرقته وليونته، فكانت صُحُفا تُقرأ.

وعلى ضفاف وادي النيل؛ سواء في بلاد مصر أو السودان أو إثيوبيا ينبت نبات البردي العالي الساق، وتُتوّجه أوراق إبرية الشكل؛ كانت تُشقّ عيدانه طوليا إلى نصفين ويُضمّ بعضها إلى بعض في مجوعتين؛ إحداها على الأخرى باتجاه عكسي، ويضغط ربما عليها، وتجفف فتصير ورقا؛ خُطّت عليه الحروف الهيروغليفية وبلغة الحضارة المصرية القديمة، فحفظت لنا (حكاية الفلاح الفصيح) و(قصة الملاح الغريق)، ونصوصا في الحساب والهندسة.

وغير هذا؛ فـ(الكاغِد) وقد ورد بهذا الاسم قديما، وهو ورق تطورت طريقة صنعه في (سمرقند) حاضرة إقليم (الصفد) بتركستان الحالية، فتنوعت خاماته، كان الحصول عليها مُتيسّرا ورخيصة الثمن، فهي الكتان والقنب والقطن وغيرها من المواد، منحت للكاغد بياضا ونُعومة، فنافس بميزاته هذه ما كان يروج قبله كقراطيس مصر البردية وجلود كان يستعملها القُدامى.

كيف ظهرت صناعة (الكاغد) في مدينة سمرقند وفي أي عصر؟

لهذا حكاية…

كان الصيني (تساي لون) قد اهتدى إلى طريقة لصنع الورق؛ في سنة مائة وخمسة من التاريخ الميلادي، وذلك باستخلاص لُبّ خام؛ بِدقّ ألياف النباتات وهَرسِها، فكانت أخف وزنا من باقي مما كان يُستخدم في الكتابة في الصين، كالألواح الخشبية، وعظام الحيوانات، وقصب (البامبو)، وأرخص من الحرير الذي كان ثمنه غاليا، ولم يكن من الأقوام والجماعات البشرية التي كانت خارج الصين؛ على علم بكيفية صناعة الورق المبتكرة، والتي احتفظ الصينيون بسرها، إلا المسلمين؛ بعد أن زحفت جيوش العرب المسلمين في منتصف القرن الثامن الميلادي؛ على مدينة (سمرقند)، فوقع في الأسر جنود صينيون كانوا يذودون على المدينة، كانت لهم دُربة في صناعة الورق أو معرفة بها؛ فعرف الفاتحون الجدد عنهم ذلك، فحرروهم وأقاموا لهم مصانع لتلك الصناعة، وجلب التجار ورق سمرقند إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية، إلى مختلف المدن الإسلامية وفي أوج ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وفي عصر تدوين الآداب والعلوم.

قد لا نُغالي؛ إذا قلنا بأن الكتاب الورقي المخطوط، والمطبوع بالحروف، واللغة العربية قد ظل حاضرا قرونا من الزمن ولا يزال، ونَقل ثقافات أمم الحضارات الأخرى التي سادت في العصر القديم (الهنود، والفرس، واليونان، والرومان…)؛ ترجمة من الهندية أو السريانية أو اليونانية؛ إلى العصر الحديث لتستفيد منها الحضارة الغربية، وقد لا تُضاهيه في امتداده الزمني ذاك، وباستعماله للورق أي حضارة أخرى.

وقد خلف لنا الحامل الورقي أعاجيبا في الاشتقاقات وفي فذلكات لغوية، حيث يظن ممن يبحثون في تاريخ الكتاب والوِراقة؛ أن كلمة الكتاب المقدس (Bible)، وكلمة بيبليوتيك (Bibiothéque)، وكلمة بيبليوغرافيا (Bibliographie)؛ أُشتُقّت من كلمة بيبلوس (Biblos)، وهو الاسم لميناء (جبيل) الذي يقع في لبنان، لأنه كان مركز تجارة الفينيقيين، فمنه كان يُصدر الورق إلى مختلف مناطق عالم البحر الأبيض المتوسط القديم؛ في عصر كانت تجارة الـمُساحلة قد وصلت إلى أوجِها في عهد الفينيقيين واليونان والرومان.

هذا عن فعل القراءة وما حُمّل به من كتابة، فماذا عن الكتاب؟

في تعريف المعجم الوسيط للكتاب هو شيء غير ملموس وغير مادي، وله عدة معان، فهو يعني (الـمُؤلّف) أو (الرسالة)، كما يعني (الأجل) أو (القدر)، وإذا دخلت على الكلمة (أل) التعريفية، فهو يدل على كتاب بعينه، فهو القرآن أو التوراة أو الإنجيل، إذن فقد يكون كتابا من الرُّقم الطينية أو الرِقّ أو ورق البردي أو ورق (الكاغد)، أو يكون رقميا بشاشة وبالمداد الإلكتروني؛ يُقرأ بآلة القارئة الإلكترونية (La liseuse électronique).

فإذا كنتُ عازفا عن القراءة، فلا أقرأ الكتاب سواء بحامل قديم الصنع؛ يُحرجني ولا أظهر به بمظهر الذي يُساير العصر فلا أستسيغه، أو بحامل ذي شاشة رقمية يرمز إلى الجديد ويُظهِر من يملكه بمظهر رجل العصر، وإذا كنتُ على وعي بفائدة القراءة، وشغوف ومتيم بها، فإني سأقرأ الكتاب سواء بذاك (القديم) أو بهذا (الجديد)، وإنما الذي صرف الناس عن القراءة، ولا حتى أن يفطنوا إليها ويحاولون استكشاف فائدتها في حياتهم الشخصية والعائلية والعملية؛ هو هذا الفيض من القنوات الفضائية، التي تُعرض داخل البيوت، والبحث عنها أسهل، وهذه المواقع التي تنقلها إليك الشبكة العنكبوتية، والتي غدت أقرب إليك من أي قُربى أخرى، والتي اختزلت المسافة الجغرافية إلى ما بين سبابتك التشهدية، أو إبهامك وزِرّ تضغط عليه، فتتقاطر عليك العوالم.

أَمِنْ حل لهذه المعضلة؟

يمكن أن تُحل بلفْت الأنظار إلى فعل (القراءة) وفائدة هذه، وبالتعود عليها، لتغدو عادة حسنة، فإدمان عليها؛ في وسطين: في البيت بشراء كتاب ورقي مجلد تجليدا فنيا بهيا، ووضعه على رف ليُغري الأهل والأبناء والأحفاد والضيوف بالقراءة، أو بتحميله وقراءته على شاشة القارئة الإلكترونية، وهذه ليست اللوحة (La tablette)؛ بتلك تقرأ كتابك الرقمي بمداد إلكتروني وببياض الكتاب الورقي، أما اللوحة فهي ليست للقراءة التي يطول زمنها، ويستحيل التركيز بالنظر إليها، وفي المؤسسات التعليمية باستطاعة المعلم أو الأستاذ ترغيب التلميذ أو الطالب في القراءة أو ترهيبه.

وفي وسائل الإعلام البصرية والسمعية، فكلمتي (كتاب صَدَر) تُغرِيان بالقراءة، كما حفّزتنا نحن في سبعينيات القرن العشرين؛ جملة جاءت في صيغة الأمر: “اِبحث عن هذا الكتاب وطالِعه”، كانت ترد على صفحات أحد الكتب المدرسية التي كانت تُقرّر في قطاع التعليم العمومي آنذاك.


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...