الجديد مسألة وجود وبقاء

رصد المغرب

لو سألنا أي فرد بغض النظر عن عرقه أو لغته أو موطنه: أي شيء ينهك المرء في هذا العصر؟ سيجيب لا محالة: السرعة وأيضا هذا الجديد المتمخض عنها الذي يلوح وكأنه بلا نهاية. قد نكون في عقدنا الرابع ولكننا إزاء تسونامي التغييرات الهائلة يداهمنا شعور وكأننا عشنا حياة كبيسة؛ برغم السرعة التي يمر بها الزمن. كان الفنان ربيع مروة صادقا حينما أطلق على إحدى أعماله الأدائية عنوانا مثيرا للمفارقات: “الحياة قصيرة ولكن الأيام جد طويلة”؛ فنحن بالفعل نعيش في عالم يتعاقب فيه الجديد كل يوم، بينما تقل فيه باستمرار حاجتنا للقديم.

في ظل هذا التيار الجارف من التغيرات المتواترة، تحيا مجتمعاتنا الناطقة بالعربية وتتخبط وسط سيل من المستجدات، وقد أنهكتها الممانعة ومقاومة الموجات الجديدة. تكافح معظم فئات مجتمعنا المطبوع بالمحافظة ضد تحولات تعصف بكل شيء، وتمزق بلا رحمة نظم القيم الموروثة. قال البعض هو طوفان يعصف بقوارب الأمان في مجتمع ذي خصوصية متفردة: (معتقدات، أسرة، عادات متوارثة)، ورأى آخرون ذلك عنوان أزمة للأمة، إن لم نقل انهيارا لها وكارثة ألمت بها. ولكن ماذا لو تعالينا موسعين زاوية النظر وكأننا على متن طائرة درون (Drone) تلتقط المشهد من أعلى؟ سندرك آنذاك ودون عناء أننا لسنا وحدنا في هذا المأزق وإن كنا الأكثر ممانعة؛ فهذا المد العاتي من التغيرات المتلاحقة هو إعلان حتمي عن استنفاد المجتمع الصناعي أدواره التقليدية لصالح موجة ثالثة من الحضارة اصطلح توفلر (Toffler) على تسميتها موجة ما بعد التصنيع، تجتاح العالم برمته.

ظلت الشعوب العربية والإسلامية تنتظم في مجتمعات قبلية غاية القوة والعنفوان، وقد تمكنت فيما مضى من إنشاء إمبراطورية شاسعة، يقر الجميع بدورها في مرور الفكر الكوني من الظلمات إلى عصر النهضة. لكن المشكلة تكمن اليوم في إيجاد معادل لهذه القوة من خارج هذه المنظومة القبلية، قد تدفع بمثل هذه المجتمعات التي تعد بالكثير إلى القبول بمسألة الجديد. هذا الجديد الذي يبدو في عصر الميديا وكأنه طوفان لا يريد أن يتوقف أبدا. أصبح التغيير تقليدا يوميا في معيشنا المعاصر حتى صرنا مرغمين على الفقدان والنسيان. لقد عاشت الأجيال التي سبقتنا على نمط واحد لا غير، فهناك من قضى حياته كلها لا يعرف وساطة للموسيقى غير أسطوانة الفينيل (Vinyle)؛ أما اليوم فسرعان ما انتقلنا من الشريط الممغنط إلى القرص المدمج، ثم وبسرعة أكبر إلى الأيبود (I pod) و”إم بي”3 (MP3)، قبل أن تتكفل الهواتف الذكية بهذه المهمة. من منا لا يزال يتذكر شكل الهاتف النقال الأول الذي استعمله في نهاية التسعينات، وكم من جيل من هذه الهواتف النقالة مرت علينا ثم غيرناها بلمح البصر لتصل بعد عقدين إلى ما هي عليه اليوم من شاشات ذكية متصلة بالعالم. وبدورها تستعد هذه الأخيرة لتخلي مكانها في المستقبل القريب جدا لجيل مجسم من شاشات رباعية الأبعاد على وشك اكتساح الأسواق.

هي سمة عصر لا يترك للشيء أن يستقر على صفة الجديد إلا لفترة قصيرة جدا.

لذلك تشهد البلاد العربية اليوم تحولات هائلة: اجتماعية (مدونات أسرية وتشريعات متقادمة لا حل لها سوى التعديل الجذري) واقتصادية (إعادة النظر في مفهوم الربا لبناء اقتصاد معاصر) وثقافية (صناعات إبداعية بديلة محل تلك القديمة) وحتى عمرانية (فقدت معها عواصم ومراكز تقليدية مواقعها الريادية لصالح حواضر أخرى جديدة ربما لم يكن لها أي تاريخ مدني عريق)، تحولات لو قسناها بثقافة البطء لما قبلناها، ولكن العبرة في مجتمعات ما بعد التصنيع بالصيرورة لا بالماضوية.. بالهروب لا بالتجدر.. بقيمة مبدأ القبول بالجديد، وتحدي أخلاقيات التيئيس والتشاؤم غير قابلة للتبرير ولا تقود سوى إلى العدمية وإدارة الظهر للعالم، وللجديد، بدعوى أنه المجهول الذي قد يهدد شرعيتنا الإيديولوجية أو التاريخية؛ وقال مارك تواين ذات مرة: “ليس المجهول من يوقعنا في المشاكل، ولكن الخطر كل الخطر هو ذلك المعلوم الذي نعتقد به ونؤمن بأنه الحقيقة، وهو ليس كذلك”.

ستجد مجتمعاتنا طريقها نحو غد أفضل بطريقة لن تخطر على بال أكثر المثقفين العضويين أو الإسلامويين تشاؤما، ومعظمنا في هذه الجماعة اللغوية الناطقة بالعربية منذور في النهاية إلى الارتماء في صيرورة العصر (النيوليبرالي)، ولن يشكل ذلك بتاتا أي خطر على وجودنا، على العكس سيعضده ويقويه؛ ففي عصر الموجة الثالثة للحضارة حيث يزداد توحد منظومة القيم الكونية يوما بعد يوم، يصير سؤال الجديد والقبول به مسألة وجود وبقاء لا مجرد فضول فكري.


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...