الطلاق الشرعي والطلاق القانوني … وممانعة الفقهاء أمام التحديث.

يمكن اعتبار الطلاق من الإشكالات التي عانت منها الأسرة المسلمة عبر العصور، بناء على قراءات لنصوص شرعية تأسس على إثرها فقه لا يراعي البتة المآلات والمقاصد، بل تبنى قراءة حرفية لبعض النصوص كانت سببا لمعاناة الأسر عموما والمرأة على وجه الخصوص.
وبعد مراحل مرت منها الأسرة المغربية، ارتقت بفعل عمل نضالي تنويري متراكم إلى مستوى “مدونة الأسرة”، حيث سدت مجموعة من الثغرات المهددة للأسرة، ومنها مسألة الطلاق، حيث منعت كل طلاق خارج الإشراف القضائي ولم تعتبره، وهو ما أحدث صدمة لرعاة الفقه القديم وسدنته الذين يقاومون أي اجتهاد تنويري يحفظ كيان الأسرة ويمنعها من الهدم الذكوري السريع.
وفي المغرب فقهاء كثر ممن يؤمنون بالاجتهاد نظريا، لكنهم لا يقتحمون عقبته تطبيقيا، بل قد يقفون حجر عثرة أمام دعاته، مثل الشيخ مصطفى بنحمزة رئيس المجلس العلمي بوجدة وعضو المجلس العلمي الأعلى، والذي كانت له العضوية في هيآت متعددة، منها اللجنة التي تولت “إنتاج” مدونة الأسرة في بداية الألفية.
وللشيخ مواقف فقهية أرثوذوكسية متصلبة في بعض القضايا، مثل إثبات نسب ولد الزنا وتوريثه بناء على إدماج بعض الوسائل الحديثة في إثبات النسب، رغم أنه لا يستند في منعه على أدلة قوية، سوى بعض الكلام الإنشائي الذي لا يندرج ضمن الفقه وأصوله.
وهذا الرأي قد يُتفهم في الرجل لاعتبارات أهمها أنه غير موجود في المدونات الفقهية المعتمدة وكذا في مدونة الأسرة. لكن ما لا يتفهم هو موقفه من الطلاق الشفوي، حيث تبنى موقفا فقهيا يخالف موقف المدونة الذي كان أحد صناعها، مما يجعلنا نطرح التساؤل الآتي: إذا كان الرجل لا يتبنى الأدبيات الفقهية القانونية التي كان أحد منتجيها، فما بالك بغيره من الأورثوذكس سواء من متعصبة المذهب أو من السلفيين أو من السطحيين الذين لا يتجاوزون ألفاظ النص؟
قال الشيخ بنحمزة في مداخلته التعقيبية في ندوة أكادير حول المدونة ما يأتي: “مفهوم الطلاق الآن لا أرى أنه صحيح، فحين يلقي الرجل الطلاق فهي مطلقة، والرجل يطلق زوجته في بيته ويعتقد أنها مطلقة، والمرأة حين يقول لها الرجل: أنت مطلقة طلاقا بائنا بينونة كبرى، تمتنع منه، ولكن، ماذا تنتظر؟ تنتظر أن يحكم القضاء بذلك.
بمعنى: يحكم القضاء بعد مدة مديدة، ثم إذا حكم القضاء بعد تلك المدة، تستأنف عدة جديدة بعدما تكون قد قضت عدتها وانتهت، فنعذبها، لأن عدتها الشرعية انتهت، ولكن نقول لها لا تتزوجي حتى يحكم القضاء”.
هكذا يميز الرجل بين طلاقين: طلاق “شرعي” يتبناه، وطلاق قانوني لا يتبناه ولا يراه صحيحا.
وبالمناسبة، فإن تعريف الطلاق الذي يرفضه الشيخ هو قول المدونة: “حل ميثاق الزوجية يمارسه الزوج والزوجة كل بحسب شروطه تحت مراقبة القضاء”.
وتحفظه كما تحفظ غيره لا ينصب إلا على عبارة “تحت مراقبة القضاء”، وفقهاؤنا إن رفضوا هذه العبارة فإنهم يودون الرجوع بنا إلى عهد التسيب الطلاقي، فمن أراد أن يطلق فليطلق متى شاء أنى شاء بأي سبب أو بدون سبب. وهذا مخالف لروح الإسلام وجوهر الشريعة.
ومن طالع كتب النوازل والفتاوى طالع حالات كاريكاتورية للطلاق، ويجد مباركة الفقهاء لكل حالة من تلك الحالات الكاريكاتورية التي وصلت بنا إلى الإفتاء بطلاق الرجل لزوجته رغم أن لفظ الطلاق صدر عنه قبل ولادتها.
مر رجل بقرطبة ووقعت له حادثة مسيئة بها، فسخط على حاله وقال: إن تزوجت امرأة من قرطبة فهي طالق. وبعد أكثر من عشرين سنة تزوج امرأة من قرطبة، وبعد الإنجاب تذكر قوله القديم، فسأل ابنَ رشد عن نازلته فأفتاه بإلزامية الطلاق.
ما ذنب هذه المرأة التي طُلقت؟ وما ذنب الأبناء الذي تهدمت أسرتهم؟
وغني عن البيان أن الطلاق لم يشرع إلا لحل المشاكل، فما هو المشكل الذي وقع بين هذه المرأة وزوجها مما يستوجب الطلاق؟
وماذا ستقول هذه المرأة إن سألها أقاربها عن سبب طلاقها؟ هل ستقول لهم: إن زوجي طلقني بسبب كلمة قالها قبل أن يعرفني بأكثر من عشرين سنة؟
هل يجمل بنا أن ننسب هذه الترهات إلى الفقه الإسلامي العظيم وشريعته السمحة؟
أورد نموذجا آخر لعهد التسيب الطلاقي الذي يريد فقهاؤنا أن يرجعونا إليه. رجل تأثر بفقر مدقع لأحد الناس، فالتزم أن ينفق عليه، وحلف بالطلاق على أن يواظب على ذلك، ولما توقف عن الإنفاق سأل أهل الفقه عن نازلته فلم يجدوا بدا من الإفتاء بضرورة الطلاق.
وكثيرا ما كانت أسباب الطلاق بعيدة عن الزوجة ولا علاقة لها به، فرجل قال لصديقه وهو يلعب معه لعبة الكارطا: زوجتي طالق إن ربحتني، وحدث أن ربحه صديقه، فلم يجد بدا أن يرسل لزوجته الوفية له ببراتها، ومثل ذلك رجل قال لصديقه: إن لم أربح في هذه الصفقة التجارية فزوجتي حرام علي، وبعد أن مني بخسارة تجارية، طلق زوجته ثلاثا، لأنها حرمت عليه.
هذه المواقف الكاريكاتورية كانت هي مواقف الفقهاء على جميع مراتبهم، وقد توقف عندها العلامة علال الفاسي وهو خريج القرويين، واستند إلى أقوال الغزالي وغيره، واعتمد على روح الشرع ومقاصده، وذكر أن الحلف بالطلاق غير سائغ ولا مقبول، كما أن هذا التسيب في الطلاق يجب تقييده، وهو ما نضج بعد عقود مع مدونة الأسرة، حيث مُنع التسيب في عبارة “أنت طالق”، ولم يُقبل أي طلاق إلا تحت مراقبة القضاء.
لذا، فإن الطلاق الذي يعتد به وتعتد منه المرأة هو الطلاق الذي مر بجميع مراحله القضائية، أما تلفظ الرجل في الشارع أو في المطبخ أو من داخل المرحاض بلفظ الطلاق فلغو لا اعتداد به، لمنع الفساد في استعمال الحق. وعليه، فإن العدة لا تبتدئ بمجرد تلفظ الزوج، بل لا تبتدئ إلا بعد حكم المحكمة، خلافا لما ذهب إليه الشيخ بنحمزة.
وإذا وافقنا الشيخ بنحمزة على موقفه من الطلاق بناء على التمايز بين “الشرعي” والقانوني، فإننا سنعمل على فتح الباب أمام زواج الفاتحة، على اعتبار أنه زواج شرعي وإن كان غير قانوني، والصواب أن الشرع فتح باب الاجتهاد ودعا إليه، وما أفرزه الاجتهاد وتبنته الدولة صار شرعيا، وما عداه فإنه غير شرعي، وأي محاولة لصبغه بالشرعية فإنه لا يعدو كونه فتحا لباب الفوضى والتسيب والرجوع إلى الوراء ووراء الوراء.
هذا، وتجدر الإشارة إلى ضرورة تربية الناس وتوعيتهم إلى اجتناب التلفظ بالطلاق في جميع الأحوال، هزلا وجدا، غضبا وفرحا، وأن يحفظوا لهذه اللفظة حرمتها، وأن يجعلوها خاصة في سياقها القضائي.

شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...