المتحدثون باللغة السريانية يقاومون خطر الاندثار في العراق

رصد المغرب

منذ قرون طويلة، يتحدّث مسيحيو العراق اللغة السريانية بلهجاتها المختلفة في بيوتهم ومدارسهم. وتحت وطأة عقود من الحروب والتهجير، باتت اللغة في خطر، لكن قناة عامة جديدة ناطقة بالسريانية تسعى إلى الحفاظ على هذا الإرث الضارب في القدم.

حين تقدّم الصحافية مريم ألبرت، البالغة 35 عاماً، نشرة الأخبار على القناة السريانية الحكومية، التي هي جزء من شبكة الإعلام العراقي، تتكلّم بلغة سريانية “أكاديمية”؛ اللغة الأم التي منها تفرعت اللهجات المتعددة للطوائف الكلدانية والسريانية والآشورية، وقد تختلف من قرية إلى أخرى.

وترى الأمّ لطفلة تبلغ تسع سنوات في حديث لفرانس برس أن وجود “برامج لإيصال هذه اللغة أمر مهم جداً”.

وتعرض القناة برامج عن السينما والثقافة والتاريخ، بعضها باللهجات المحلية؛ أما نشرات الأخبار فتتلى بلغة سريانية “أكاديمية”. لكن “ربما هناك الكثير من المستمعين المسيحيين…لا يفهمون هذه الكلمات التي نقولها”، تقول مريم، وتضيف: “أشعر بالأسف كون لغتنا تندثر تدريجياً، صحيح أننا نستخدمها في بيوتنا، لكن وجود قناة توصل هذا الصوت أفضل”.

واليوم، تغيب الإحصاءات الدقيقة لتعداد المسيحيين في البلاد، لكن تقديرات تشير إلى أنه لا يتخطى 400 ألف نسمة، من نحو مليون ونصف مليون قبل عقدين، هاجروا بفعل عشرين عاماً من الحروب والنزاعات.

ويعدّ شمال العراق مركزاً مسيحياً مهماً، لكن هيمنة تنظيم الدولة الإسلامية على المنطقة في العام 2014 والانتهاكات التي ارتكبها هجرت قرى بكاملها، فيما لجأت عائلات إلى إقليم كردستان وأخرى هاجرت إلى أوروبا أو كندا.

تضمّ القناة السريانية التي أطلقت تجريباً قبل ثلاث سنوات، ورسمياً مطلع أبريل الماضي، نحو 40 موظفاً، بينهم عشرة مقدمي برامج، هم خمس نساء وخمسة رجال.

ويقول جاك أنويا، مدير القناة السريانية، إن “القناة مهمة جدا في الحفاظ على اللغة السريانية”، وذلك عبر “تقديم برامج ترفيهية بلغتنا”.

ويضيف الشاب البالغ 30 عاماً: “اللغة السريانية كانت يوما ما لغة الشرق الأوسط، وعلى الحكومة الحفاظ عليها من الاندثار”، ملاحظا أن “العراق جميل بهذه الثقافات والتنوع الذي فيه…من طوائف وأديان متعددة”.

وبالنسبة لكوثر نجيب عسكر، رئيس قسم اللغة السريانية في جامعة صلاح الدين الحكومية في أربيل، عاصمة إقليم كردستان شمال العراق، فإنّ “اللغة السريانية” التي استخدمت لآلاف السنين في كنائس العراق وسوريا وجنوب تركيا ولبنان هي اليوم “لغة مركونة نوعا ما”.

ويضيف عسكر لفرانس برس: “لا نقول لغة ميتة، إذ مازال المتحدثون باللهجات يعتمدون عليها، ومازال بعض الكتاب ورجال الدين يهتمون بها، لكن الخطر عليها وارد”.

يضمّ قسم السريانية الذي يديره عسكر نحو 40 طالباً، في موازاة قسم آخر في الجامعة الحكومية في بغداد. وتدرّس اللغة أيضاً في حوالى 265 مدرسة عامة متوزعة بين العراق المركزي وإقليم كردستان، وفق عماد سالم ججو المدير العام للدراسة السريانية في وزارة التربية العراقية.

وتعود أولى الكتابات السريانية إلى القرن الأول والثاني قبل الميلاد، وفق المتحدث ذاته، لكن اللغة السريانية “بلغت ذروتها بين القرنين الخامس والسابع” بعد الميلاد.

ولم تقتصر السريانية على الكتب الدينية، بل كانت لغة التعاملات الحكومية والفلسفة والعلوم والأدب؛ وفي ظل تقدّم اللغة العربية في المنطقة تراجع استخدامها منذ القرن الحادي عشر، لكنها لم تندثر تماماً.

ويرى عسكر أن “الهجرة سبب قوي” يهدد استمرار اللغة، ويضيف: “عندما يسافر أبناء هذه المنطقة أو المتحدثون باللهجات (السريانية) إلى الخارج، سواء إلى أوروبا أو أميركا…” قد تبقى اللغة عند الجيلين الأولين لكن “الجيل الثالث ربما لن يعرفها”.

في صيف العام 2014، قبل عشرة أيام من وصول تنظيم الدول الإسلامية، أخرج رئيس أساقفة الموصل وعقرة للكلدان المطران ميخائيل نجيب كنزاً لا يقدّر بثمن من المدينة: مخطوطات سريانية عمرها مئات السنين.

ويحفظ اليوم 1700 مخطوط ونحو 1400 كتاب في مركز المخطوطات الشرقية الرقمي في أربيل. ويشرح المطران نجيب لفرانس برس أن المركز يجمع هذا “التراث، سواء كان مخطوطاً أو مطبوعاً أو مكتوباً، ويتم تنظيفه وتهيئته للتصوير الرقمي”، فضلاً عن ترميم المخطوطات القديمة وحفظها.

إلى ذلك، هناك “أكثر من 8500 مخطوط رقمي صورت وأعيدت إلى أصحابها”، غالبيتها سريانية.

وتعود بعض هذه الكتب والمخطوطات إلى القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وفق نجيب. ويحظى المركز بدعم من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) ومن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (يو إس إيد) والرهبنة الدومينيكانية.

ويهدف المركز إلى “حفظ التراث وديمومته” ووضعه “بين أيدي الباحثين ليستفيدوا منه في بحوثهم وأطروحاتهم”، وفق نجيب.

وفي قرقوش، أقدم البلدات المسيحية الواقعة في سهل نينوى شمالي العراق، يجلس تلاميذ ثانوية مار أفرام السريانية قبالة أستاذهم صلاح سركيس باكوس محدقين بلوح أبيض كتبت عليه الأحرف السريانية.

ويدرّس باكوس البالغ 59 عاماً اللغة منذ أن أدخلت إلى المناهج الدراسية قبل 18 عاماً، ويرى أن تعليمها أمر “ضروري جداً ليس فقط للأطفال بل لبقية فئات المجتمع كذلك”، لأن “هذه اللغة تمثل تاريخنا، لغتنا الأم في بلاد ما بين النهرين”.

لكن باكوس الذي أحرق تنظيم الدولة الإسلامية مكتبته التي كانت تضم نحو ألف كتاب نصفها سريانية يبدي قلقه من كون “جيل اليوم لا يبالي بتعلم لغته”، وخصوصا أن “ولي أمره يقول إن اللغة السريانية أصبحت ميتة ولا فائدة منها”.

عن هسبريس


شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...