أمي الثانية المرحومة فاطنة الجزولي،إمرأة بمائة رجل.

غادرتنا إلى دار البقاء، المرأة التي أعتبرها وكانت بحق أما ثانية لي، الحاجة فاطنة الجزولي، والدة زوجتي، يوم الأربعاء رابع نونبر 2020، بعد أن قضت ثلاثين يوما مابين الحياة والموت، في غيبوبة تامة، بقسم الإنعاش بالمصحة، والتي اتخذتها العائلة عشرات بنساءها ورجالها رباطا، لاتبرحه صباح مساء وفي الليل، تتشبت بالأمل في الله أن يشفي ويحيي عزيزتنا من موات. وشاءت إرادة الله القدير،في هذا الظرف العصيب أن نصاب من حوالي هذا الرباط بسهام المرض، فنفقد به شقيق المرحومة الحاج أحمد الجزولي رجل التعليم النموذج القدوة، بعد ثلاثة أيام فقط، بين الحياة والموت في المصحة، وقد كان معنا سليما يجول كما نجول، رحمة الله عليه، وأكون أنا بدوري نزيل المصحة طرفا من الأيام، يتداركني الله برحمته، ونعيش فوق محنتنا، محنة جائحة الساعة، جنائز متلاحقة دون إحياء يليق بالأحبة.
ولأن فقيدتنا كانت إمرأة استثنائية، ومعدنا نادرا،عز نظيره بين النساء، لا حتى بين الرجال، من الشيم العالية، والنبل والعطاء والخير والنفع للناس بغير حساب، سارت بذكره الركبان، ويعرفه الخاص والعام، في مجال حينا البرنوصي وفيما هو أوسع وأبعد من ذلك.
ولأن الفقيدة جزء هام من حياتي، وشريك فاعل في ملاحم عمري، في نضالي وفي كفاحي بالصمود في محنة السجون، وفي كفاحي ببناء حياتي الإجتماعية والسياسية بعد الخروج من رحلة السجون.
لأن الأمر في جلاله كذلك، فقد وجب الكلام عن سيرة هذه الثريا السامية في سماءها، بأغلى مايكون عليه رصع نظم الكلام، وبأبدع مايجري به القول والحكي والرثاء الفياض بالشجون.
وحتى يشهد التاريخ، ويرسخ في سجل الٱثار الخالدة لمغربنا العريق التليد في مفاخره الإنسانية، أن المغرب وكما تمجد برجاله، فقد تمجد بنساءه اللائي زخرت بهن كل عصوره وأحقابه، نماذج راقية وجواهر نفيسة. والحاجة فاطنة الجزولي حيكت شخصيتها من هذا النسيج.
في سنوات الجمر والرصاص، كان على المناضل الذي صمم على أن يخوض معركة الكفاح والمعارضة من أجل التغيير وضمان أوضاع فضلى للشعب والبلاد تتحقق فيها الحرية والكرامة والحق والعدالة والعيش الكريم من إمكانات البلاد وثرواتها، كان عليه أن يتحمل الثمن غاليا، سحقا وإضطهادا وتعذيبا في السجون من السلطة، التي لاتواجه المعارضة إلا بالقمع، ذلك منهج السلطة في كل زمان ومكان.
وكان عليه أيضا أن يؤدي وأسرته ضريبة لاتخف وزنا ولاتقل فداحة، وهو أن يجافي الناس المناضل وأسرته تحت وطأة أجواء الخوف التي تشيعها السلطة، وقلة من الشعب هي التي تحطم حصار وجدار الخوف، وتسند المناضل المعتقل وتؤازره وتشد عضد أسرته، فلا تخلو البلاد من نبلاء وأبطال وأوفياء.
وفي محنة إعتقالي خلال الثمانينات، كنت أسأل أهلي عن تواصل الناس معهم، وكان الوضع قاسيا، فقد نفر منهم الأقارب والأباعد، حتى مدرسة الوالد التي كان يعلم فيها الصغار، أقفرت وأجذبت، فقد قاطع الناس المدرسة، لأن دار الجيلالي لعماري أطلق عليها نعت دار السياسة.
لكن وسط هذا النأي والنبذ، كانت الحاجة فاطنة وبناتها وٱبناؤها، سندا لظهر الأسرة ، حضورا وملازمة ومواساة ودعما، كانت ظلا ظليلا للعائلة، كانت عائلة ثانية، وكان هذا وحده ينفض عني ثقلة وكٱبة الزنازن.
كان سماعي لخبر أن الفقيدة وعائلتها عائلة بوروضا تتعهد أسرتي بالزيارة، بلسما لجراحي ونورا منيرا لي في ظلماء السجن.
وفي السجن كان المعتقلون السياسيون، يساريين وإسلاميين، يواصلون النضال الذي اختاروه موقفا وحركة وصراعا في ساحة العمل، يواصلوه في ساحة الإعتقال، ولكن بأشكال أخرى وعلى واجهات أخرى، وفي معركة استراتيجية هي معركة الكرامة، وفي مواجهة تكسير إرادة المناضل المعتقل ،كانت استراتيجية الصمود والتحدي لإحباط السحق والتكسير.
ففي 1985، خاض المعتقل السياسي، زعيم اليسار الراحل إبراهام سرفاتي، في السجن، معركة من صلب هذه الاسترتيجية تستهدف تحطيم الحصار وتكسير الأغلال التي تلف الحرية، عنوانها الحق في الزواج داخل السجن، ومن خلالها الحق في التواصل الحياتي، والإستمرار في حق النبض الإنساني، واكب هذه المعركة المنتظم الحقوقي العالمي، فكان انتصارا مظفرا للحق، وكان انتزاعا لمكسب الترخيص بإبرام عقد الزواج، عندما أذن الملك الحسن الثاني بشرعية هذا الحق، وتزوج السرفاتي من المناضلة الحقوقية الرائدة كريستين دور سنة1986.
وكان هذا المكتسب النضالي فتحا عظيما على المعتقلين السياسيين، خولهم تدشين حياة جديدة بالتعاقد على الزواج، دخلت من خلاله المرأة المناضلة عالم السجن فقلبته رأسا على عقب، لانها دفقت فيه منسوب الصمود والثبات والإصرار والإستمرار، ومن هذا الباب، وعلى شاكلة كثير من المعتقلين السياسيين كان قراري بالخطبة والإرتباط الزوجي برفيقة العمر خديجة ابنة فقيدتنا الغالية، وإتخاذ عائلة بوروضا عائلة لي، لأنها كانت في واقع الأمر كذلك.
وكان موقف فقيدتنا في غاية الشموخ الإنساني، فلم تمانع المشروع الزوجي، بالرغم من أن الإرتباط بسجين، يكون محفوفا بالمكاره والمخاطر والمفاجئات، ولم تحتسب للأمر مايقتضيه حسابه الواقعي والمادي والمطلوب،إزاء ست سنوات باقيات من السجن من أصل عشرة، ولم تستحضر سوى القيمة العليا والرفيعة للمشروع من جانبه الروحي والإنساني والمثالي والنضالي، القيمة التي تذوب فيها وتنمحي الحسابات المادية والواقعية البحتة، وهي حسابات مشروعة وموضوعية ومنطقية.
ومنذ ذلك الحين وإلى أن حل الإفراج وبفضل الموقف البطولي من المرحومة، لم يعد السجن سجنا، وتحولت المحنة إلى فضاء واسع من ٱفاق الأمل والإعداد لحياة المستقبل، الأمل الذي يزكي العمر ويباركه وينميه.
ومثلما كانت أمي الأولى والدتي تستعد لاستقبال الإفراج عني، كات أمي الثانية المرحومة فاطنة تعد للأمر عدته، وتعد له لوازمه، وفي يوم الإفراج وليلته، قامت على قدم وساق ولم تقعد، وقد جعلت من بيتها الذي يجاور بيتنا ، بيت الإستقبال الرئيسي لوفود المهنئين، فيه خطب الدكتورعبدالكريم الخطيب خطبته العصماء، وفيه خطب الدكتور سعد العثماني، رئيس الحكومة حاليا خطبته المجلجلة، والمرحوم الوكوتي،والدكتور المقرئ أبوزيد.
وهل توقف الأمر عند هذا الحد فقط مع كرم الفقيدة الغالية، في استقبال المعتقل السياسي المفرج عنه ومسح جراحات السجن عنه؟ إن الخيال لايستوعب، وإن المنطق لايصدق، ولكنها الحقيقة الساطعة، أنه ولما يمض على الإفراج عن المعتقل السياسي سوى زمنا محدودا حتى كانت الفقيدة قد أتمت إعداد شقة إيواء بيت الزوجية، إصلاحا وتزيينا وتجهيزا وتأثيثا وتفريشا بأفخر وأوثر مايكون عليه المطلوب.
ثم بعد ذلك، وعندما إنطلق قطار الصهارة والنسب، لم ترفع يدها عن رعاية هذا البناء الأسري يوما بيوم، بل أقول ساعة بساعة، حتى نما الأبناء ثمار هذا البناء وكبروا في حضنها وعلى عينها وتحت سهرها، ينبوعا من الحدب والعطاء لاينضب ولا يغور كانت الحاجة فاطنة الجزولي، وطيلة ستة وعشرين عاما، وإلى أن وافتها المنية لم تطش منها ولو كلمة واحدة، ولم تزغ منها ولونظرة واحدة، ولم يحد منها ولو نفس واحد، عن جبلة الخير والطيبة التي جبلت عليها، وطيلتها أعطتنا بسخاء وبغير حساب، ولم تكن لتأخذ منا ولو قطميرا يسيرا، حتى كتب الله لي أن أكون آخر من كلمها، وتكون تحية يدها التي سكنت فجأة، ٱخر ماأسدته لي، عندما عدت ليلا وكانت عندي في بيتي، فلوحت بيدي لأتفقد هل هي نائمة فلوحت بيدها وأسمعتني الكلمة الأخيرة، أنها لا زالت يقظة، قبل أن يقضي الله قضاءه بعد ساعة من ذلك، وإن أذكر أمرا من أسرار وعجائب الله أنني في تلك اللحظة شعرت برغبة جامحة قوية تجتاحني من الأعماق بشكل غريب غير مسبوق تحثني على محادثتها ومجالستها، ولم يكن ليكبت رغبتي و مامنعني سوى أنني تفاديت إزعاج النيام، وبقيت غصة تجول في حنايا النفس.
هذه سيرة الحاجة فاطنة الجزولي مع كل أصهارها الذين لا تفرق بينهم وبين أبناءها إن لم تكن تفضلهم وتؤثرهم ، نموذج راق من سيرة المرأة المغربية الأصيلة التي تبني وتشيد المجتمع وتشد وترسخ ركائز الأسرة المغربية الناجحة.
ولكن هذا كله غيض من فيض في حياة الفقيدة وسيرتها مع الناس في حي البرنوصي وفي كل مكان وصلته أياديها وظلالها، فقد كانت المرأة التي لاتشرق فيه شمس يوم دون أن يكون لها مسعى تسعاه في خدمة الناس وقضاء حوائجهم بغير جزاء ولا شكور، كانت في شؤون الناس وبغير تمييز بين الناس أمة وحدها، وحزبا وحدها،ومؤسسة إجتماعية وحدها، لاتراها إلا مشاءة مع نساء أو رجال ترافقهم وتتقدمهم، إن إلى مستشفى تبحث عن دواء أو موعد أو سرير لمن يرافقها، تستجدي له الأطباء والممرضن، وإن إلى مدرسة تحل مشكل تسجيل أو وضعية تلميذ مع المدراء والمعلمين، وإن إلى إدارة تسهل خدمة أو إجراء أو وثائق لمن تتوسط له عند موظف أو مسؤول، وإن إلى سجن أو مخفر شرطة أو محكمة، تواسي وتؤازر من تورط قريبه أو إبنه، أما المساعي والخطوات في إصلاح ذات البين في خصومات الناس والأزواج و الأشقاء فحدث عن البحر الزاخر ولا حرج، حيث أصبحت موفقة في رأب الصدع، للكلمة التي لاترد لها.
كانت الحاجة فاطنة الجزولي إمرأة بمائة رجل، لايتوقف طرق أبوابها، يقصدها من يحتاج إلى خدمة أو تدخل أو خطوة أو شد أزر أو إسعاف ضائقة أو إلى رأي ومشورة وتسديد وجهة.
أما في الشأن العام وقضاء مآرب السكان الجماعية والدفاع عن قضايا الناس لدى السلطة المحلية أو التمثيلية فقد كانت الفقيدة مدرسة في ميدانها، وحركة دائبة غير منقطعة، ومرد ذلك أن ابنها ولي تمثيل الناس كمستشار جماعي خلال الثمانينات، ووليت أنا صهرها بعد خروجي من السجن خلال التسعينيات، كمستشار نائب لرئيس الجماعة، وتقلدت شقيقتي بعدي مهام المستشارة مطلع الألفية الثانية، وطيلة عقود من هذا الزمن، وٱعباء شؤون الناس ترهق كاهل فقيدتنا الحاجة فاطنة، إذ تجنب الناس مشاكستنا بعرض المشاكل علينا، ولكنهم راحوا يقصدونها هي ويطوقونها هي بكل مايقلق راحتهم، وكأنها هي المستشارة الجماعية عنهم، وكانت في مستوى الإضطلاع بما يجب من دون تبرم أو تضجر،لاتني حركتها غدوا ورواحا من وإلى مقر المقاطعة. وكانت عند حسن ظن الناس، وكانت عند حسن تقدير مسؤولي الإدارة والسلطة، لايرجعونها خائبة للأدب الجم اللباقة التي تفاوضهم بها.
تلكم بعض من مناقب فقيدتنا الحاجة فاطنة الجزولي، التي وإن سردنا عن مآثرها فلن تسعفنا الأسفار أن نملأها سردا وتعدادا، المرأة المتواضعة البسيطة، ولكنها في علو وتطاول الجبال الشم من عظمة قدرها وصلابة عزمها وإرادتها في الخير والنبل والشهامة والنضال، المرأة المثالية التي ربت وخرجت من بيتها رجال ونساء الطب والقانون والتعليم والإدارة، المرأة التي بكت عليها البواكي، وشعر باليتم من كان من حواليها ومعارفها وجيرانها ومن كانت له منها يد حانية، فقد كانت أما للجميع تنجد وتعين وتسعف وتكنف وتقيل.
رحم الله أمنا الثانية، وأسكنها الفردوس الأولى ولقاها بما عملت نضرة وسرورا وجعل قبرها روضة من رياض الجنة

شاهد أيضا
تعليقات
تعليقات الزوار
Loading...